لا أحب “تخلاط العرارم”، وأنزعج كثيرا من الخلط بين الأوراق. لذلك، فحين يصبح النضال الحقوقي ذريعة للتضييق على حق الآخر في الاختلاف، ويكون كل شيء وأي شيء جائزا للتنديد بـ “القمع الممنهج” و”الاستبداد” و”مصادرة حق الشعب المغربي”، وغيرها من العبارات الفضفاضة؛ تنتفض شعيرات رأسي و “كتطلع ليا القردة للراس”.
تعود تفاصيل الواقعة إلى عهد قريب وقريب جدا. مواطن من بومية قرر الترشح للانتخابات المحلية المقررة ليوم 4 شتنبر الجاري. هذا المواطن اسمه لحسن احسيني وهو مرشح باسم التجمع الوطني للأحرار. إلى هنا، فالأمر عادٍ وهو مرتبط بواحد من آلاف المرشحين الذين يتنافسون على مواقع المسؤولية المختلفة في الجماعات والجهات. إلا أن لحسن احسيني هو أيضا رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ببومية. لذلك، فقد كان هذا المرشح موضوع بلاغ من فرع الجمعية توصلتُ بنسخة منه. قرأته للمرة الأولى دون اهتمام خاص. لكني حين أعدت قراءته وجدت فيه بعض الفاشية التي أرعبتني وأزعجتني كثيرا.
بغض النظر عن الموقف من الجمعية أو من حزب التجمع الوطني للأحرار، فأنا أنطلق من مبدأ أساسي: من حق أي مواطن أن يختار الترشح للانتخابات؛ ومن حقه أيضا أن ينتمي للحزب السياسي الذي يختاره. من حقنا كناخبين أن نصوت لصالحه أو ضده، ومن حقنا أيضا أن نقاطع الانتخابات (شخصيا، لا أتفق مع مبدأ المقاطعة، وقد عبرت عن ذلك في مقال بتاريخ 18 غشت على صفحات جريدة “الأحداث المغربية”. لكني أحترم حق المقاطعة، مادام المقاطعون يحترمون حق الآخرين في المشاركة في الانتخابات وفي الحملات).
لذلك فقد انزعجت من بلاغ فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ببومية ومن صياغته؛ لأنه أولا يتنافى مع دور جمعية يفترض أنها حقوقية وليست سياسية، ولأنه ثانيا يحرم مواطنا من ممارسة حق من حقوقه الأساسية، وهو ممارسة الفعل السياسي. هناك إذن مستويان للنقاش:
أولا، لغة البلاغ المتحاملة تجعل حزب التجمع الوطني للأحرار مسؤولا عن كل المشاكل الحقوقية في البلد؛ وفي هذا تجنٍّ غير مبرر حيث نقرأ عبارات فضفاضة من قبيل: “(…) المساهمة في مصادرة إرادة الشعب المغربي في إقرار حقوقه الأساسية (…) إلى غاية إسهامه راهنا من موقع مسؤوليته الحكومية في القمع المسلط على القوى والحركات الاجتماعية المناضلة (…) والاعتقالات السياسية والتضييقات المستهدفة للحركة الحقوقية الجادة وعلى رأسها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، واستهدافه المباشر لحقوق المغاربة في العيش الكريم (…)”.
من حق أي كان أن يأخذ موقفا انتقاديا من حزب التجمع الوطني للأحرار أو من أي حزب آخر، لكنه من غير المنطقي أن نُحَمِّل حزبا ما، مسؤولية كل أشكال الخلل في البلد. نعرف، منطقيا، أن الأمر أعقد من هذا بكثير… كما أنه، وهذا الأساسي، ليس من دور جمعية حقوقية أن تُقَيّم الأحزاب السياسية وتقرر الصالح فيها من الطالح؛ وإلا، فهي ليست أقل استبدادا ممن تندد بهم.
المستوى الثاني من النقاش يتعلق باحترام حق الآخرين في الاختلاف، حتى حين ننتمي معهم لنفس “التنظيم”… اللهم إلا إذا كان القانون الأساسي للجمعية يمنع الانتماء لأحزاب بعينها. لذلك، فقد فاجأني كثيرا قرار الفرعِ تجميدَ عضوية رئيسه بسبب ترشحه باسم الأحرار؛ وذلك باسم “حقوق الإنسان” وباسم “الديمقراطية”. أي أنك حين تكون أحد أعضاء الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ولكي لا تعتبر خائنا، فهي التي تقرر إلى أي حزب يمكنك أن تنتمي وباسم من يمكنك أن تترشح (هذا إذا سمحت لك بالترشح أصلا). مما يعني في النهاية أنه، باسم الديمقراطية وباسم حقوق الإنسان، لا يبقى لديك الحق في اختياراتك الشخصية؛ كيفما كانت طبيعة هذه الاختيارات؛ ما لم تتماشَ مع الاختيارات المركزية للجمعية.
قد يكون لأعضاء الجمعية موقف من الحزب وتاريخه. قد لا يعجبهم البرنامج الانتخابي للتجمع الوطني للأحرار. قد يكونون من دعاة المقاطعة. كل هذا من حقهم كأفراد وكمواطنين. لكن المنطلق الأساسي لاحترام الحقوق، هو أنه من حق أي مواطن، حتى لو كان إطارا فاعلا في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، اختيار انتمائه الحزبي بحرية. طبعا، قد لا يتفق البعض مع الاختيارات السياسية للآخرين. هذا أيضا حقهم. لكن هذا يعطيهم فقط الحق في مناقشة هذه الاختيارات، لا في منعها. هذه هي الديمقراطية الحقيقية وهذا هو احترام حقوق الإنسان. ما دون ذلك هو أيضا “تضييق على حريات وإرادة المواطنين” و “مصادرة لإرادتهم في إقرار حقوقهم الأساسية”.
سناء العاجي.