أسيل مداد كثير حول موضوع العلاقة بين الثقافي والسياسي في الممارسة العربية منذ أواسط القرن الماضي. كان «الثقافي» مختزلا في مواقف المثقفين وانحيازهم الإيديولوجي. كما كان «السياسي» مفهوما في ضوء العلاقة مع الحزب أو الدولة، أو في نطاق الانتماء إلى قضايا التقدم والتحرر.
لكن الموقف من الشعب، من لدن المثقفين، لم يكن يتعدى الحلم برمزيته المتعالية على الزمان والمكان، أو اتخاذه موضوعا للمزايدة الإيديولوجية، أو ادعاء تضامنه مع طروحاتهم، وتعاطفه مع تصوراتهم للتغيير.
وفي كل هذه الحالات، كانت القطيعة قائمة بين فئات الشعب المختلفة، وشرائح عريضة من المثقفين، سواء كانوا باحثين أكاديميين، أو مناضلين حزبيين. ولقد استمر هذا الوضع إلى الآن، مع اختلافات طفيفة. تبدو لنا تلك الصورة واضحة مع أحداث الربيع العربي، حيث كان دور المثقفين فيها لا يتعدى المشاركة أو التعاطف؛ ولم يكن طليعيا كما كان مفترضا، لغياب تفاعل حقيقي ومؤسساتي بين المثقفين والمجتمع. يمكننا التمثيل لهذه العلاقة بين المثقف والمجتمع من خلال التجربة المغربية، ذات التاريخ العريق في ممارسة التعدد السياسي، وخوض معارك انتخابية منذ بداية الستينيات إلى الآن.
كان المثقفون يشكلون قاعدة أساسية للمعارضة، باعتبارها امتدادا للحركة الوطنية، ولذلك كان تعاطفهم السياسي يتحدد في ضوء العلاقة مع الأحزاب الأكثر معارضة للسلطة المركزية: من حزب الاستقلال، والشورى والاستقلال إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فالاتحاد الاشتراكي، ثم اليسار الجديد. وفي مختلف المحطات الانتخابية والمنعطفات السياسية كان متخيل «مقاطعة الانتخابات» هو القاعدة الأساسية التي تحكم السلوك السياسي لدى المثقفين، حتى في الحالات التي كانت تنخرط فيه الأحزاب التي يتعاطفون معها أو ينخرطون فيها.
يتحدد موقف «المقاطعة» في كون الانتخابات ضربا من الممارسة السياسية البورجوازية، من جهة، وفي اعتبارها لعبة يتحكم النظام في قواعدها، من جهة ثانية. كما أن أي مشاركة في الانتخابات كان ينظر إليها من زاوية كونها إعطاء شرعية للنظام، من جهة ثالثة، لذلك كان يتصدر مختلف تلك المحطات الانتخابية خطاب الدعوة إلى المقاطعة. وفي الوقت نفسه، كان يذيل بخطاب التلويح بتزوير الانتخابات، وظل «المسلسل الديمقراطي» الذي اختطه المغرب أسير هذا الوعي وتلك الممارسة. وكان الرابح الأكبر في هذا المسار هو النظام من جهة، والأحزاب التقليدية أو التي تؤسس قبيل الانتخابات. لكن المعارضة الحزبية التي كانت لا تدعو إلى المقاطعة لم يكن لها تأثير مباشر وفعال على مثقفيها ليكونوا جزءا من هذا الواقع. فقلما كان يتم ترشيح المثقفين، وحين يكون ذلك يتم في دوائر لا يمكن أن تتيح لهم إمكانية الوصول إلى نتيجة (تجربة عبد الله العروي نموذجا).
كانت المقاطعة، ضمنا أو مباشرة، تعبيرا عن سلوك سياسي وثقافي في الآن نفسه. ولم ينجم عن ذلك غير عزلة المثقف عن الواقع والمجتمع معا. كما كان لمواقف الأحزاب من المثقفين أثره في تعزيز هذه الصورة ( استقالة محمد عابد الجابري من المكتب السياسي مثلا). بينما ظل المثقفون ـ السياسيون يحتلون مواقع في الأحزاب، حسب درجة ولائهم لهذه الجهة المتنفذة داخل الحزب أو تلك، أو بناء على طموحاتهم الخاصة، التي كانت سياسية بالدرجة الأولى.
لا أريد استعادة طرح مقولة «الالتزام» أو «الانتماء» بالنسبة للمثقف. كما أنني لا أبغي طرح السؤال حول «دور المثقف» ووظيفته في المجتمع. فهذا من الموضوعات التي باتت بلا معنى، منذ أن بدأ التراجع عن تطارح القضايا الثقافية العميقة وعلاقتها بالمجتمع والواقع والتاريخ. حتى إن كنا لا نعدم من يتحدث عن المعنى والتأويل والنقد الثقافي والمجتمع المدني، وهلم جرا.
أتيحت لي في نهاية الثمانينيات فرصة أن أكون عضوا مراقبا في مكتب انتخابي في منطقة شعبية في العاصمة. وكان من بين أهدافي معاينة «نوعية» المنتخبين، وإنجاز قراءة للحدث الانتخابي. وطوال يوم كامل جعلته لرصد الناخبين وفئاتهم وكيفيات تصرفهم، وهم يتسلمون الأوراق ويضعونها في الصناديق، فرأيت عجبا. كانت النسبة الكبيرة من الناخبين فوق الخمسين، ولم يتعد عدد الشباب خمسة. كانت الأغلبية، ولا شك أنها انتخبت مرات عديدة، لا تعرف كيف تتصرف عند دخولها مكتب الانتخاب. بعضهم يأخذ فقط الورقة التي أوصوه بالتصويت عليها، وبعضهم يأخذ كل الأوراق ويحاول الانصراف من باب الخروج قبل أن يؤدي مهمته، كان الناخبون يأتون أفواجا ودفعة واحدة. وواضح هنا أنهم كانوا يحملون حملا إلى التصويت. كانت الخلاصة التي خرجت بها، أن صاحبي لن يفوز ولو بصوت واحد؟ وكذلك كان. وأن مسافة ضوئية تفصلنا عن دخول زمان الانتخابات المصيرية، التي تحدد للشعب مكانته في المعترك السياسي. وفعلا كانت «الديمقراطية» لعبة محددة القواعد.
تغيرت أمور كثيرة منذ ذلك التاريخ إلى الآن، لكن هل تغير الوعي الانتخابي لدى المواطنين؟ ما هي مسؤولية الأحزاب والمجتمع المدني والمثقفون بهدف الارتقاء إلى متطلبات هذه اللحظة التاريخية؟ إنه السؤال الذي يحرج السياسي والثقافي في الممارسة العربية، وبدون التفكير فيهما بكيفية جماعية وواعية، لا يمكن أن يكون للعمل الثقافي أي حضور في الواقع الاجتماعي.