مهما حاول النظام الجزائري أن يخلي سبيله أو يبرأ ذمته من المجازر التي تعاني منها قبائل المزاب جنوب الجزائر، تبقى مسؤوليته فيما يحدث لغرداية وغيرها من التجمعات الأمازيغية في عين عاصفة هذا النظام المتآمر على شعبه. أزمة غرداية أزمة هوية جعل منها هذا النظام الذي لا يومن إلا بنفسه أزمة سياسية بامتياز سواء على المستوى الحقوقي أو على مستوى الحريات العامة والفردية. انها أزمة لم تكن وليدة اللحظة بل كانت نتيجة تراكمات سلبية من السياسات المبنية على الإقصاء التي قادها حكام الجزائر منذ استقلال البلاد إلى يومنا هذا في حق أبناء الشعب الجزائري عموما وبالأخص في حق الأمازيغ.
وقد تعمد النظام الجزائري في الأحداث الأخيرة فتح المجال وتشريع الأبواب للتجاوزات والخروقات كي تتخذ الأزمة في تطوراتها الأخيرة بعدا طائفيا وللخروج بالاعتقاد أن الصراع لا يعدو أن يكون إلا صراعا بين ساكنة المنطقة من عرب وأمازيغ، ونية النظام في ذلك مقصودة ومبيتة للتمويه على أن الصراع خارج عن دائرة المواجهة بين أجهزة النظام وقبائل المزاب. بينما اليد الخفية للنظام ثبت أنها هي التي تنسج خيوط اللعبة وتتحكم فيها. والوقائع تشهد عن نفسها بالدليل القاطع عن ضلوع هؤلاء الحكام في العبث بمصائر شرائح الشعب الجزائري الشقيق. فالسياسات العمومية الجادة والمسؤولة هي التي تجعل من شعوبها أن تنال حق قدرها من الرعاية والاهتمام، فيما السياسات الشيطانية، كتلك التي ينهجها حكام الجزائر، همها زرع بذور التفرقة لكي تقتات منها وتعيش الأنظمة المتعفنة على أنقاض شعوبها.
أحب أم كره النظام الجزائري فهو ضالع في الأزمة ومتآمر من الأمس البعيد وإلى حدود هذه الأيام العصيبة على الأشقاء. وسنبين ذلك على النحو التالي:
1 ـ هناك معطى ثابت على أرض الواقع وحقيقي وهو أن النظام الجزائري نظام شمولي. والقول بذلك يعني أنه نظام لا يومن إلا باتجاه واحد ويومن بأن الحقيقة هي تلك التي يملكها ولا وجود لحقائق أخرى، كما لا يسمح لغيره بأن يعبر عن ذاته ووجوده. ففي نظره، يعد ذلك الغيرصوتا نشازا في نظام يدير الشأن العام بعقلية الثكنات العسكرية. فغرداية واحدة من تجليات المشهد السياسي المتعفن في الجزائر. وما تشهده هده المنطقة من تطورات مريبة هي نتاج لسلسلة من القمع الذي مارسه هذا النظام طوال عقود خلت من قبيل الاختراقات وتغيير البنية الديمغرافية في هذه المنطقة لمحو الهوية وتذويبها بنية التشويه وما قد يتبع ذلك من اقصاء متعمد.
2 ـ التطورات التي شهدتها المنطقة خلال الخمس السنوات الأخيرة كشفت عن هذا المخطط الخطير الذي يحتفظ به النظام الجزائري. وقد بدأ العمل به من قبل من خلال زرع الفتنة بين عرب الشعابنة المدعومين من طرف النظام وبين الأمازيغ الموجودين في دائرة استهداف هذا النظام. وبذلك أراد حكام الجزائر، من باب التمويه والتشويه، أن يكون هذا الصراع طائفيا وأن يخرج من جبته السياسية حيث سمح لعرب الشعابنة بالاستيلاء على العقارات والأراضي الزراعية لأبناء مزاب منذ عهد الرئيس بومدين الذي كان يدعم المد العروبي على حساب العنصر الأمازيغي. ومنهم من هجر من دياره على مسمع ومرأى أجهزة الدولة. وطوال سنين خلت، حاول هؤلاء المستنجدون بالدولة لكن من دون جدوى لأن الدولة في واقع الأمر هي الخصم والحكم. وفي الآونة الأخيرة أي لحظة اشتداد الأزمة، سعى أبناء امزاب إلى استرداد حقوقهم وممتلكاتهم فواصلتهم اللعنة ولحقهم الرصاص بعد أن صورهم النظام بالخارجين على القانون والمتمردين على سلطة الدولة.
3 ـ النظام الجزائري لم يكتف بمحاولته من جعل هذه الأزمة أزمة قوميات بين عرب وأمازيغ، بل يعمل جاهدا على جعلها كذلك أزمة عقيدة مفتعلة بين الأباضيين وهم الأمازيغ والمالكيين من عرب الشعابنة. وبذلك، يكون النظام الجزائري بدوره ينحو في اتجاه ما سبقه إليه الرئيس السوري بشار الأسد، وهو النظام الذي يؤازره حكام الجزائر. وعوض أن تسارع القيادة الجزائرية إلى اتخاذ سلسلة من الإصلاحات الدستورية والسياسية الحقيقية لإدخال الشعب الجزائري في فضاءات من الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، فضلت هذه القيادة خلط الأوراق والإيقاع بين مكونات المجتمع الجزائري وهو مخطط من شأنه أن يقود إلى حرب أهلية أرادها النظام أن تكون كذلك على غرار ما يحدث اليوم في سوريا حتى يبقى هو متفرجا ومتحكما في المشهد الدرامي ويستخدمه فزاعة لترهيب الجزائريين الأحرار.
4 ـ ضلوع النظام الجزائري في التطورات الدامية الأخيرة بدا من الوهلة الأولى للأزمة حينما تلكأت وتواطأت أجهزته الأمنية من خلال الإحجام عن التدخل السريع الذي كان من المفترض أن يجنب الاصطدام والاحتكاك. بل أكثر من ذلك، أظهرت الوقائع والصور التي نقلتها عدسات الوسائط الاجتماعية أن أجهزة الأمن الجزائرية قد وفرت غطاء أمنيا لعناصرها من عرب الشعابنة وساهمت في مساعدتهم لاقتحام مخل بالتوازن ضدا في أولئك الذين يراهم النظام الجزائري بالمناوئين له. ولم يسجل تدخل للقوات الأمنية الجزائرية إلا بعد أن استفحل الوضع الأمني بشكل خطير بات يهدد بانتقاله إلى مناطق أخرى. ولم يكن تدخل هذه القوات بنية التهدئة والاحتكام إلى المنطق والعقل بل جاء على شكل تصفية الحساب بين النظام والقبائل الأمازيغية، ظاهر هذا التدخل إيقاف مسلسل الفتنة الطائفية وباطنه ردع أعداء النظام.
4 ـ النظام الجزائري، وكعادته، ليست له الجرأة بأن يعترف ويتحمل مسؤولياته في الأوحال التي يجرجر ويمرغ فيها كرامة وكبرياء شعبه. فخطابه السياسي المفضوح ينقل دائما صورة مخالفة للواقع ويعتمد عقيدة عفا عنها الزمن وأن هناك مؤامرة تحاك ضد الجزائر، بينما المؤامرة الحقيقة هي تلك التي يحيكها النظام ضد شعبه من خلال إيهام الجزائريين بأن بلدهم مستهدف ويجعلهم يعيشون تحت هذا الوهم. هذا الخطاب التآمري زادت حدته في الآونة الأخيرة على لسان الوزير الأول الجزائري عبدالمالك سلال الذي يبدو في تكوينه البسيط عاجز تماما على إقناع نفسه فكيف يتسنى له أن يقنع الآخرين. مصيبة الشعب الجزائري الشقيق أنه ابتلي بقيادة جاهلة ومعاقة، والأخطر ما في الأمر أن يحكمك جاهل تنعدم معه على الإطلاق كل جسور الحوار والتواصل مما يجعل مشاعر اليأس والإحباط تستفحل في نفوس الناس مع انسداد الآفاق في وجه التغيير الذي نريده للجزائر أن يكون انسيابيا. لكن أشرعة النظام تدفع في الاتجاه المعاكس.
5 ـ من المغالطات التي تثير الغثيان والمثيرة للضحك هي تلك التي يروج لها النظام الجزائري في الآونة الأخيرة للتستر على زلاته وخطاياه حينما يدفع باتجاه تحميل المسؤولية إلى المغرب في كل مكروه يحل بالجزائر. في مجازر غرداية ادعى النظام أن هناك طابورا مغربيا وأياد خفية للنظام المغربي هي التي مولت هذه الحركة وبالتالي زعزعة استقرار بلادهم من خلال تواصل أمازيغ مغاربة مع أنصار لهم في الجزائر. وحاول النظام الجزائري أن يبرر هذا الادعاء وهذه التهمة بأن ما يحدث في غرداية ما هو إلا ضريبة تؤديها الجزائر اليوم نتيجة مواقفها المساندة لما يسمى بالشعب الصحراوي. ومثل هذا النظام الذي لا يرى في ذلك إلا تواطؤا من الخارج، فهو في الواقع لا ينطق إلا بسياسة يومن بها ويمارسها على أرض الواقع تجاه جيرانه من الدول. وإذا كانت هناك من دولة مارقة في المنطقة والتي تعمد إلى زعزعة استقرارها فهي دولة الجزائر.
6 ـ ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها حكام الجزائر إلى البحث عن مبررات لأزماتهم بأسباب خارجية وإلصاقها على وجه التحديد بالمغرب. ومن شر البلية ما يضحك. فالجراد الذي ضرب الولايات الجزائرية، كان في نظر حكامها بتدبير محكم من النظام المغربي الذي عرف كيف يقنع الجراد بتغيير وجهته إلى الجزائر وكذلك الوباء الذي ضرب السنة الفارطة المواشي . وفي عام 2009، اتهم النظام الجزائري المغرب بالوقوف من وراء الفيضانات وخاصة في حي باب الواد بالعاصمة الجزائرية، بعد أن تحكم في غيوم السماء وأسقط مطرها على أحياء العاصمة . نفس الاتهام ألصق بالمغرب عام 2003 حينما اخذ الزلزال استشارة من المغرب ليهز مدينة بومرداس. المغرب كان له ضلع، حسب النظام الجزائري، في التأثير على منظمة "الأوبيك" كي تتراجع أسعار البترول في أسواق العالمية حتى يشمت المغاربة في تراجع مداخيل الجزائر من البترودولار. إفلاس النظام الجزائري لم تعد له ضوابط ولا حدود في المنطق والتحليل. فالمأزق الذي بات يعيشه هذا النظام جعله يضرب أخماسا بأسداس إلى حدود أنه يريد أن يقنع شعبه بأن "داعش" دخلت في صفقة مع المغرب لضرب استقرار الجزائر في مناطق "القبايل" وجنوب الجزائر. كما أن الطائرة الجزائرية التي سقطت في شمال مالي يدعون أنها تحطمت بفعل صاروخ أرض جو مغربي، وأن هزيمة المنتخب الجزائري أمام نظيره البلجيكي في كأس العالم كانت بسبب هدف سجله لاعب بلجيكي من أصل مغربي، وأن المغرب كان من وراء حرمان الجزائر من إقامة مصنع "بوجو ـ سيتروين" على أراضيها وسرقة هذا الاستثمار منها لكي يرى النور في المغرب. والقائمة طويلة في الجنون الذي استحوذ على القيادة الجزائرية وجعلهم يفقدون التوازن والصواب. إنها بالفعل مظاهر لنظام وقف على حافة الافلاس ودخل في الانحدار الخطير للانهيار الكامل.
7 ـ أحداث غرداية وما واكبتها من تصفيات جسدية ومحاكمات تعسفية أسقطت القناع عن الوجه الحقيقي للنظام الجزائري القائم على القمع والاستبداد. كما وضعت هذه الأحداث النظام الجزائري أمام امتحان حقيقي وعسير تجاه ما يدعيه من مبادئ ومثل عليا لا يتمسك بها ولا يستأنس بها إلا عندما يريد أن يزعزع بها استقرار دول الجوار وبلقنة المنطقة في الحدود التي يراد بها أن تخدم المخططات التوسعية للجزائر. وإلا فما معنى أن يتمسك هذا النظام بمبدإ تقرير المصير لكيانات وهمية وينفق من خيرات الشعب الجزائري لنصرة قضية لا تهم أشقائنا الجزائريين، بينما يتصدى لهذه المبادئ بكل ما أوتي من جبروت حينما ترتفع أصوات حرة في الجزائر تنادي بالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الانسان. فأين هو احترام المبدإ إذن؟ فسياسة الكيل بمكيالين لم تعد تنطلي على أحد. والشعب الجزائري أكبر من محاولات ذلك النظام الذي يريد أن يستغفله.
وتلك أيام معدودة لنظام يطل على حافة الإفلاس كما أضحت ألاعيبه واضحة للعيان . وعجلة التغيير ماضية في سيرها، كما أن التغيير بات ضروريا وملزما وتمييع الأزمات بالبحث لها عن مسببات في الخارج لم يعد مجديا أمام تطور الحياة الديمقراطية على شرق وغرب الجزائر. ولعل هذا التطور الحاصل هو الذي يؤرق اليوم النظام الجزائري و يتمنى لهذه التجارب أن تنتهي بالفشل لأنها تشكل خطرا على وجوده وتضعه بين فكي كماشة. فإلى متى يظل النظام الجزائري يحجب ضوء شمس الحرية بغربال المكر والتنكر. إجمالا إنه نظام عاجز عن إيجاد شرعية قانونية وتاريخية له في مشهد سياسي موبوء لا هم فيه للمعسكرات السياسية إلا الصراع والإقصاء للبقاء في سدة الحكم، ويحاول هذا النظام عبثا أن يجد شرعيته من خلال مناصبته العداء للمغرب لعله يضمن في ذلك دوامه واستمراريته في السلطة. وأن من اراد أن يضمن لنفسه من الفئة الحاكمة موقعا رفيعا في السلطة عليه فقط أن يظهر عداء للمغرب لكي يكون له حضور في المشهد السياسي الجزائري. ومن أظهر عكس ذلك يكون مصيره المحتوم هو الإقصاء.