إن الأصوليات ، كل الأصوليات ، أكانت تقنوقراطية أم ستالينية ، مسيحية ، يهودية أم إسلامية ، تشكل اليوم الخطر الأكبر على المستقبل ... الواقع أن الأصولية ولدت ، في العالم الثالث و بكل أشكالها ، من زعم الغرب ، منذ النهضة ، فرض نموذجه الإنمائي الثقافي " : روجيه غارودي
1– على الرغم من اقتناعنا التام باستحالة نجاح أي تجربة سياسية علمانية بحصر المعنى في الدول العربية – الإسلامية لعوامل سوسيو ثقافية مخصوصة ، فإننا نميز بين المنجز العلماني الكوني باعتباره اجتهادا حضاريا بشريا بالغ الأهمية ، يجسد منتهى ما وصلت إليه الثقافات الإنسانية الراقية من مأسسة المجتمعات و عقلنة الفعل السياسي العام ، و بلورة أنساق مجتمعية متشبعة بالقيم الإنسانية الرفيعة الداعية إلى العدل و المساواة و التسامح و قبول الآخر ، في ظل نظام سياسي ديمقراطي يفسح المجال للتعددية السياسية و المنافسة الشريفة على السلطة بين الأحزاب الحقيقية ، و الحاملة لرؤى و برامج مجتمعية واقعية .. و بين " العلمانية " العربية الاستئصالية و المستبدة ، و الهادفة إلى فرض نموذج حياتي نوعي مع إقصاء موغل في التطرف لاختيارات شعبية أخرى ، و المنتشية باستهداف المشترك الديني ، و المطمئنة للمساندة المعنوية و االوجستيكية من قبل منظمات و جمعيات " حقوقية " دولية .
2– و الواقع أن مجموعة من الفاعلين السياسيين و المثقفين العرب ، مع بعض الاستثناءات ، و الذين يرفعون يافطات الليبرالية و العلمانية و الحداثة .. هم أبعد الناس عن روح العصر ، و أدبيات التنظير السياسي العالمي القائم على أسس التعايش السلمي و بديهية قاعدة تدبير الاختلاف بين كل ألوان طيف المجتمع ، لا بل إنهم خارج سياق ما بعد حراك الربيع العربي الموؤود ، و غير معنيين بالتحولات السياسية و العسكرية الرهيبة إقليميا و دوليا .
3– و كمثال يجسد بجلاء هذه الحقيقة الاجتماعية المؤلمة ما عاشته و مازالت ، الساحة الإعلامية المغربية من ثرثرة مملة حول مسألة القيم و " الحريات الفردية " ، خاصة بعد توالي سلسلة من " الوقائع " الفنية و الاجتماعية و الثقافية ، من قبل " الشريط السينمائي " الزين اللي فيك ، و حفلة المغنية جينيفير لوبيز و اعتقال الشابين المثليين و متابعة فتاتي إنزكان و الاعتداء على مثلي بفاس .. و نحن إذ ندين و بشدة المساس بحرية الفكر و التعبير ، و نندد بقوة بالاعتداء على الحريات الفردية ، فإننا نعبر عن خيبة أملنا حول ما يصدر عن بعض ممثلي الصف " العلماني "من انتهاج سلوك غير عقلاني يتفهم السياق الثقافي والاجتماعي المحافظ و إيقاع العملية السياسية المغربية البطيئ ، خاصة و أن هكذا مواضيع تحظى بمناقشة حادة داخل غالبية المجتمعات الغربية المتقدمة جدا في مجال ثقافة حقوق الإنسان ، و الحقيقة أن أدعياء العلمانية بالمغرب ضيعوا فرصا ذهبية للتصالح مع الشعب المغربي الذي ينظر إليهم باعتبارهم أطرافا تستهدف قيم المجتمع و ثوابت الأمة ، و يستصغرون الدستور الذي صوت عليه الشعب بأغلبية مطلقة ، و غني عن البيان التذكير للمرة الألف أن الدستور المغربي و هو أسمى قانون للبلد ، يقر بأولوية احترام المواثيق و القوانين الدولية الداعمة للعدالة و المساواة و حرية التعبير و التفكير و المعتقد .. شريطة أن يندرج كل ذلك في إطار أحكام الدستور و ثوابت المملكة و قوانينها .
4– فمتى سيدرك ممثلو " العلمانية " المغربية وضعهم الاعتباري الدراماتيكي ، المتمثل في السباحة ضد قيم المجتمع و الثوابت الثقافية و الاجتماعية و الدينية للأمة ؟ متى يعون أن انهزامهم في الاستحقاقات السياسية ليس عيبا ، بل العيب هو التمادي في انتهاج مسلكيات تنزع نحو روح الاستئصال و الهيمنة و رفض الآخر ؟ متى يفهمون أن مكانة خصمهم السياسي اللدود حزب العدالة و التنمية ليست في قوته الذاتية فقط ، بل في ضعفهم و ابتعادهم عن نبض المجتمع و آلام المواطنين و أحلامهم !؟ متى يقتنعون بأنهم ليسوا وحدهم في المجال الوطني العام ، و أنهم محكومون بالتعايش و التعاون مع أطراف سياسية أخرى من أجل مصلحة البلد و تجنيبه المخاطر المحدقة به ؟ و أخيرا و ليس آخرا متى يستشعرون أن جوهر الصراع في راهن المغرب ليس بن العلمانيين و التقليديين ، و ليس بين الحداثيين و المحافظين .. بل إن الصراع منحصر بين المحظوظين و المحرومين، بين المدافعين عن الديمقراطية و الإصلاح و بين الاستغلاليين و رموز الفساد ؟
الصادق بنعلال – كاتب من المغرب