لا أحد ينكر أن المد المتطرف قد بلغ أوجه، وذلك باتخاذه من القيم المحافظة قاعدة خلفية لتمرير خطابه العنيف المحرض على القتل بشتى الأشكال البشعة. لقد باتت المجتمعات العربية المحافظة بطبيعتها لقمة سائغة بين يدي هذا الوحش الضاري بسبب المشترك الذي يجمعنا وهو الدين الإسلامي.
وعلى الرغم من سيادة قيم المحافظة في هذه المجتمعات إلا أن عددا منها كان يسمح بتعايش كبير بين معتنقي شتى الأديان ومصدر ترحيب دائم بالأجانب (المغرب وتونس ومصر ولبنان، نموذجا)، غير أن ظهور خطاب ديني متشدد، يعطي لنفسه الحق في تأويل مفرط في التحجر للنصوص الدينية مستغلا تقاطع هذه النصوص مع القيم المحافظة التي تنهل منها هذه المجتمعات، قلص من هامش التسامح والتعايش فيها، وهي عملية امتدت لسنوات عديدة أثر فيها بشكل كبير ميزان القوى العالمية والتحولات التي تعرفها هذه المجتمعات نفسها.
لا بد هنا من التذكير بتفسير شخصي سبقت الإشارة إليه منذ مدة في هذه الزاوية، حول اتجاه مجتمعنا مثلا نحو التشبث اليوم أكثر من أي وقت مضى بقيمه المحافظة والتوجه نحو التشدد، وتعود أسباب هذا التشبث بمظاهر المحافظة، في تقديري إلى نوع من الحماية الذاتية اللاواعية التي ينتجها المجتمع لتجاوز ما هو أصعب وتفادي اعتداءات عنيفة ودموية للجماعات المتطرفة، واستعادة التوازن بين مختلف التيارات الفكرية والإيديولوجية التي تتنازعه.
بطبيعة الحال نحن لا نقدم تبريرا لهذه السلوكات المرفوضة التي تظهر بين الفينة والأخرى كما هو الشأن بالنسبة للاعتداء على فتاتي إنزكان بسبب لباسهما أو لافتة شاطئ أنزا التي تحرم لباس البحر، لكنها فقط محاولة للفهم بعيدا عن ردود الأفعال المتسرعة.
والملاحظ أن حادثتي إنزكان وأنزا جاءتا متزامنتين تقريبا مع عمليات إرهابية دموية عرفتها كل من فرنسا وتونس والكويت والصومال وإن كان لكل عملية طبعا سياقها السياسي والمجتمعي. في فرنسا مثلا كانت العملية التي استهدفت مصنع الغاز بمثابة حلقة جديدة من مسلسل زعزعة استقرار البلد تنفذها «ذئاب منفردة»، لكنها لا تخرج عن السياق العام الذي تؤطره الجماعات الإرهابية. أما بالنسبة للكويت فالعملية التي استهدفت مسجدا للشيعة تدخل ضمن حرب طائفية تتمظهر بمظهر الإرهاب، وهي حرب قد تطال أيضا الإثنيات وقد بدت بعض أشكالها الأولية في الجزائر التي تعرف بين الفينة والأخرى اندلاع مواجهات بين العرب والأمازيغي (أحداث غرداية مثلا).
في تونس يختلف أيضا الوضع باعتبار قربها أكثر من فوهة البركان الليبي، وكذا لتمكن العديد من الجماعات المتطرفة من توسيع نفوذها بها غداة ثورة الياسمين، علما أن العملية التي استهدفت السياح الأجانب بسوسة ليست الأولى من نوعها التي تخلف ضحايا في صفوف السياح، والملاحظ أن مثل هذه العمليات أصبح متواترا (لا تبعد زمنيا كثيرا عن اعتداء متحف باردو) كما أنها تأتي موازاة مع قيام الأمن التونسي بتفكيك العديد من الخلايا الإرهابية.
السياق المغربي لم يدع حادثتي إنزكان وأنزا تمرا دون رد فعل، فعلى امتداد أسبوع نددت ردود الأفعال بهذين السلوكين المتطرفين، وإن كانا ناتجين عن المجتمع نفسه، وعرفت عدة مدن تنظيم وقفات احتجاجية وانطلقت حملة تضامنية مع الفتاتين، تحت شعار ارتداء تنورة ليس جريمة، كما أن الشبان الذين وضعوا لافتة على شاطئ أنزا تحرم لباس البحر في شهر رمضان استدركوا الأمر واعترفوا كونهم لم يعوا جيدا الآثار السلبية لهذا السلوك.
في كلا الحادثين كانت هناك يقظة من المجتمع للحفاظ على الجزء الأساسي من هويته المتمثل في التسامح مع الآخر والقبول بالاختلاف، وهو الجزء الذي يعتبر قاعدة التنوع الثقافي التي عرف بها مجتمعنا.
والظاهر أن الفاعل الأساسي في ردود هذه الأفعال هي فئة الشباب، وهو ما يوسع من الكوة التي تسلل منها شعاع النور وسط كل هاته العتمة التي تحيط بنا، وهو نفسه الشباب الذي ملأ قاعة العروض عن آخرها بمقر جريدتنا خلال استضافتنا للمفكر المتنور المصري سيد محمود القمني، ما يعني أنه مازال هناك مساحة يشغلها عقل الشباب المغربي الطامح إلى مستقبل متحرر من قيود الرجعية.
محمد أبويهدة