النص الكامل للدرس:
" مولاي أمير المؤمنين"
بعد تربعكم على عرش أسلافكم المنعمين، وفي إحدى زياراتكم الأولى لمدينة مراكش، قررتم إحياء ليلة القدر المباركة بضريح الشيخ المعروف بسيدي بلعباس، وقد عدتم إلى ضريحه ومسجده في أكثر من مناسبة، ولا يملك كل من يتدبر الموافقات التاريخية، إلا أن يتوقف عند سر هذا الاختيار، وآية هذا الالتفات والاعتبار، وذلك من خلال المناسبة بين ما عرف به صاحب الضريح، من مذهب قائم على التكافل والتضامن، وبين ما تجلى من خلال هيمنة روح التضامن على سياستكم الاجتماعية، ومبادراتكم التكافلية. والواقع أنكم، يا مولاي، من خلال هذه الموافقة وغيرها، تتصرفون كوارث عبقرية حضارة، ومستودع أمانة تاريخ تغذيه جذور ثابتة، في أرض المغرب المعطاء. وإن إشارتكم السامية، لخديمكم هذا، بأن يتناول الكلام في هذا المجلس عن أبي العباس، تأكيد من جلالتكم على ضرورة تعرف المغاربة على منابع القيم المثلى لثقافتهم، تثبيتا لمسارهم الحاضر، واستشرافا لمستقبل يستمد مرجعيته من قيم ماضيهم المجيد.
وتناول الموضوع في أربعة محاور هي:
- أولا –التعريف بسيدي بلعباس؛
- ثانيا –شرح مذهبه في التضامن؛
- ثالثا –شرح علاقة مذهبه في الجود بالتوحيد.
- رابعا- عرض مذهبه على النظر الشرعي والصوفي والسياسي والاجتماعي والفلسفي.
أولا: التعريف بأبي العباس،
هو أحمد بن جعفر الخزرجي، ولد بمدينة سبتة عام 524 ه، ونزل بمراكش، وبها مات عام 601. كانت مدينة سبتة في وقته من كبريات عواصم العلم والحضارة في الغرب الإسلامي، وثيقة العلائق بمدن الأندلس وشرقي البحر المتوسط، كانت عامرة بالعلماء والتجار والزهاد الذين ما تزال قبور بعضهم معروفة في هذه المدينة السليبة إلى اليوم. قال أبو العباس عن بداياته: أول أمري أني كنت يتيما، وكانت أمي تحملني إلى نساجي الحرير، فأفر منهم إلى مجلس الفقيه أبي عبد الله الفخار،فتضربني، إلى أن قال لها الفخار: لم تضربين الصبي؟ فقالت إنه يتيم ويَأبَى أن يعمل شغله، وليس عندي شيء، فقال لي الشيخ: يا بني، لم لا تفعل ما تأمرك به أمك؟ فقلت له: إنما أحب هذا الكلام الذي أسمعه منك، فقال لها: اتركيه، وأنا أدفع عنك للمعلم الذي يقرئه أجرته. فقرأت القرآن إلى أن حفظته، ثم قرأت الأحكام. قال: لما بلغ سني عشرين عاما رحلت إلى مراكش، وأقمت في الجبل المطل عليها المسمى إيكليز، والمدينة يحاصرها الموحدون". انتهى كلام أبي العباس. ومعلوم أن حصار الموحدين لمراكش على يد عبد المؤمن، وقع ابتداء من شهر محرم عام 541هـ.
إن مما يثير الانتباه أن نجد أبا العباس ينجذب إلى مراكش ومصيرها لم يعرف بعد، في مرحلة انتقال الحكم من المرابطين إلى الموحدين، ليكتب له أن يشهد الوقائع العظيمة في عهود أربعة من الخلفاء، هم عبد المؤمن ويوسف ويعقوب المنصور،والناصر. هكذا تنطبق حياة أبي العباس بمراكش على أوج حضارة المغرب في ذلك العصر، زمن كبار ساسة المغرب والأندلس، وعظام شيوخ الحضر والقبائل من مصمودة وغيرهم، كانت مراكش تعج بالفقهاء والأدباء والزهاد والفلاسفة والأطباء، وكان يصنع فيها المصير السياسي لمعظم جنوبي حوض البحر المتوسط، ومجال واسع من شماليه الغربي.
كان أبو العباس في مراكش يسكن بفندق قريب من الأسواق، وكان يشتغل بتدريس الحساب والنحو، ويأخذ على ذلك أجرا، كانت له منحة من بيت المال مع طلبة الحضر، كان جميل الصورة حسن الثياب فصيح اللسان،مستحضرا للأدلة من السنة والقرآن.
ثانيا: مذهبه في التضامن:
بدأ أبو العباس مذهبه التضامني العملي بالإنفاق على طلبة العلم الواردين على مراكش. وما لبث أن اشتهر بالجلوس في الأسواق والطرقات، وحض الناس على الصدقة، ويذكر ما جاء في فضلها من الآيات والآثار، فتتوارد عليه الصدقات، فيفرقها على المساكين وينصرف. كان مذهبه يدور على هذا المنوال، أخذ المال من البعض وإعطائه للبعض الآخر، كان إذا أتاه أحد يطلب أو يشكو من أي شيء كان، يقول له: تصدق تصل إلى ما تريد، وجرب الناس عليه ذلك وصح فصار عندهم أعجوبة الزمان.
وبموازاة لهذه التجربة العملية كان يجتهد في تأصيل مذهبه من جهتين: 1) جهة النص وجهة الذوق، فمن جهة النص كان يستشهد بآيات القرآن الكريم التي ورد فيها الحض على الإنفاق عامة، والإحسان خاصة، سواء بالحرف أو بالمعنى، وهي آيات كثيرة، ومن وقائع السنة كان يذكر على الخصوص،أن الذي فتق وعيه وفتح بصيرته في البداية، هو العمل التضامني المؤسس لجماعة الإسلام الأولى في المدينة، على يد الرسول الأكرم، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، حيث قسم الأنصار أموالهم مع المهاجرين، وهو عمل المشاطرة، واستلهاما من هذا العمل، عقد أبو العباس النية مع الله ألا يأتيه شيء إلا شاطر فيه إخوانه المؤمنين الفقراء، أي قسمه معهم، عمل ذلك عشرين عاما، فصار لا يحكم على شيء بخاطره إلا صدق، ثم عاهد الله ألا يكتفي بإنفاق النصف، بل يمسك الثلث ويصرف الثلثين، عمل ذلك عشرين عاما أخرى، فأتم له الحكم في الخلق بالولاية والعزل، وفهم أن أول فرض هو شكر النعم، وحيث إن الصدقة الواجبة، وهي الزكاة، تصرف على سبعة أصناف، فقد وجد هو سبعة أصناف أخرى ينبغي أن يصرف عليهم على سبيل الإحسان، وهي النفس والأهل، ثم الرحم والضيف واليتيم وصنفان آخران. ثم زاد في الإنفاق بأن عقد مع الله أن كل ما يأتيه يمسك منه سبعا للنفس وسبعا للأهل، ويصرف خمسة أسباع لمستحقيها، أقام على ذلك أربعة عشر عاما فأثمر له الاستجابة التامة من السماء، فما قال يا رب إلا قال لبيك، وقال: لما تحقق لي ذلك علمت أنها نهاية أجلي. قال نظرت فيمن أستجلب أرزاقهم فإذا هم الأيتام المهملون الذين لا والد لهم ولا أم. ونظرت في ذوي الرحم فإذا لهم حقان، حق الرحم وحق المسكنة، ثم وجدت صنفا آخر هم الذين لا تمكنهم المسألة، قال ابن مساعد، وهو من أصحابه: "وانتهى أبو العباس إلى إعطاء تسعة أعشار والتمسك بالعشر، وهي النهاية، أي أنه يأخذ لنفسه الواجب للمساكين، ويعطي المساكين ما يجب له، وهو المالك". كان يقول: أصل الخير في الدنيا والآخرة الإنفاق، وأصل الشر في الدنيا والآخرة البخل.
أما من جهة الذوق، فكان يرد سائر أصول الشرع إلى الصدقة، فيرى أن التكبير في الصلاة بقول: "الله أكبر"، فيه التزام من القائل بأن لا يبخل على الله بشيء يملكه، وأن رفع اليدين بالتكبير يعني قول المكبر لله: تخليت لك عن كل شيء، وكان يرى أن الركوع يعني المشاطرة،أي أن تقسم ما عندك مع غيرك، والسلام من الصلاة يعني الخروج عن كل شيء، والصوم يعني أن تتذكر الجائع وتتصدق عليه، والزكاة فرضت ليتدرب الناس على البذل والإعطاء، والحج أن تبرز في زي المساكين وتظهر ما ينبغي لله من العبودية.
وقد قرن أبو العباس مذهبه هذا في الصدقة بالمواساة، فكان يخص بالإشفاق زمرة المساكين واليتامى والأرامل. يتصرف وكأن جسم المدينة التي يسكنها جزء من جسده، يحس بآلامها ويأرق لحرمانها، يقاسم الفلاحين خوفهم إذا انحبس المطر، ويشارك أصحاب البساتين مخاوفهم إذا أشفقوا على ثمارهم من الجوائح، وكان يفقد شهية الطعام في بعض الأوقات، فيتبين أن بعض من في الحي قد بات يتضور من الجوع، فإذا أطعمه أقبل بشهية على ما كان مجه من الأكل والشراب، ويقع له أن يشتد على جسمه البرد وهو بداره مدفأ بملاءات تقيه البرد على العادة، فيبحث أهله عن العلة، فيتبين أن بعض الجيران قد تشققت سقوف بيوتهم وانحاشوا إلى دهليز يرتعشون فيه، فإذا حمل إليهم الغطاء، عاد إلى نومه، وقد كفاه غطاؤه المعتاد.
هكذا كان مذهب أبي العباس في التضامن، غير أن هذا المذهب القائم على الإنفاق، كان في نظره ذا عمق يتصل بجوهر الاعتقاد، وهو توحيد الله تعالى.
فقد اعتبر أن الإنفاق هو الدليل على أن المنفق قد تخلص من الشرك الخفي الذي يتسرب إلى القلب من حب المال. فمن المعلوم أن التوحيد هو الركن الأعظم في التدين بالإسلام، وشرط الإقرار به شهادة أن لا إله إلا الله، غير أن علماء الدين لم يكتفوا بتلقي ما ورد عن التوحيد في القرآن، بل اجتهدوا في التدليل على وحدانية الله بالعقل، واستندوا على الخصوص إلى ما يسمى ببرهان التمانع، أي أنه لو كان في الأرض والسموات أكثر من إله لوقع فيها الفساد، وجرت في الموضوع مناقشات في مستوى اللغة والمنطق تناولت ذات الله وصفاته، وذلك في مطارحات يستعصي كثير منها على عامة الناس، في إطار ما سمي بعلم الكلام.
وجرت مقاربة أخرى للتوحيد على أيدي الصوفية، فقد رأى هؤلاء أن حظ عقل الإنسان في إدراك حقيقة التوحيد لا يتعدى تصورات عن الخالق في لغة المخلوق، فقالوا إن ما يمكن تحصيله في هذا الباب إنما يدرك بالذوق، أي بتجربة أو حال روحية على أساس ما ورد في القرآن والسنة عن التزكية، أي التخلص من الهوى المقترن بسلطة الأغيار التي تستولي على النفوس وتسلبها حرية ملامسة المطلق، وقد ذكر الغزالي أن التوحيد أربع مراتب، فالأولى إقرار اللسان مع غفلة القلب، وهو توحيد المنافقين، والثانية إقرار اللسان وتصديق القلب بمعنى اللفظ وهو اعتقاد العوام، والثالثة، أن يرى الأشياء على كثرتها صادرة عن البارئ الواحد، ويحصل ذلك بكشف يوجهه نور الحق، وهو توحيد المقربين، والرابعة، وهي ألا يرى في الوجود إلا واحدا وأن يستغرق بالتوحيد عن النفس والخلق، وهو مقام الصديقين، وهذا لا يعني بأي حال ما يفهم عادة من وحدة الوجود.
إن مذهب التوحيد عند السبتي لم يقف عند براهين المتكلمين ولم يتناول أذواق المتصوفين، إذ ربطه بدليل عملي يتجلى في السلوك ويتمثل في البذل والعطاء. لقد استقى هذا المذهب من المنطوق المباشر لآي من القرآن تحمل عادة على أنها تتعلق بأبعاد كمالية للتدين، فقد جاء في القرآن أن الهوى يمكن أن يتخذ إلها، وأن المال الذي يستولي على ضمير الإنسان قد يكون حجابا، لذلك أمر الله رسوله بأن يأخذ من المؤمنين صدقة يطهرهم بها. ولا يتعلق الأمر هنا بالتوحيد الذي يخرج من الكفر، لأن هذا يكفي فيه الإقرار باللسان. ولكنها درجة التوحيد التي تتجاوب مع الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان من جهة، والتي بنى عليها سنة الكون من جهة أخرى، فعندما يرى السبتي أن البخل ينطوي على عدم الإقرار بأصل العطاء، يذكر بأن فقر الذين يحتاجون ويبخل عنهم يكاد أن يكون كفرا، فعطاء الله تعالى يسمى رزقا، وعطاء الإنسان مما رزقه الله يسمى إنفاقا، وهو الامتداد الطبيعي لعطاء الله سبحانه، وكل إمساك من قبيل البخل إخلال بهذا القانون، وعطاء الله شامل لكل المخلوقات، وشامل لكل البشر .
ولذلك قال أبو العباس لأحد أصحابه: أعط ما عندك لأول من تلقاه، ولو وقع في يد يهودي أو نصراني، فالحركة التي في مقدور الإنسان أن يتشبه في مستواها بالخالق هي الإعطاء، وحيث إن كل ما في الكون ناتج عن مدد الله، فالطبيعة التي خلقها مددا من عنده تتجاوب سننها مع جنس حركتها الأصلية، ومن ثمة يتأتى أن نتصور كيف يمكن أن تكون للكون حساسية لفعل الإعطاء، وحيث إن كمال التوحيد لا يتحقق للإنسان إلا إذا تحققت له الحرية إزاء تملكاته، فكل ما يملكه الإنسان، يوشك أن يقلب هذا المالك مملوكا، وحيث إن التوحيد الإحساني محله القلب كما أن التوحيد في مقام الإسلام محله اللسان، فإن المحل المعرض للفساد بالتملك هو القلب الذي يتسرب إليه الهوى، أما اللسان فمن السهل على صاحبه أن يقول ما لا يصدقه العمل ، هكذا يأتي أبو العباس بالحجج على أن الإنفاق المحسوس هو الدليل الصادق على التوحيد القلبي المعتبر.
مولاي أمير المؤمنين
بعد أن تعرفنا على شخص أبي العباس، واستعرضنا ملامح مذهبه في التضامن، ورأينا علاقة الجود عنده بالتوحيد، نأتي إلى عرض القراءات الممكنة لهذا المذهب، بحسب فهم وقتنا هذا، وهي قراءات خمس، شرعية وصوفية وسياسية واجتماعية وفلسفية،
أولا: القراءة الشرعية،
إن أهم ما يبرز منها يتعلق بترتيب الأولويات، فقد اعتبر أبو العباس أن الإنفاق هو الذي ينبغي أن يكون في مقدمة أعمال التدين،أي أن يعبد الله عن طريق إسداء الخير للغير قبل كل شيء، وبجعل الإنفاق في المركز، رأى أبو العباس أنه وضع الأصبع على عنصر الداء، وكان واعيا بأنه اهتدى إلى فهم في الدين لم يهتد إليه غيره من العلماء، فقد قيل له: لماذا لا تتحدث عن الصلاة، كما يفعل عامة الدعاة ؟ فأجاب بأنه منشغل بالداء الذي عمت به البلوى، ولم يشتغل به غيره من العلماء، وهو البخل الذي هو مصدر الشرور كلها، والعطاء في نظره فاعل في الطرفين ،المعطي والمتلقي، ولولا ذلك لما كانت التزكية بالإعطاء منبت الوازع الذي عليه مدار الطاعة في الدين.
إن ترتيب هذه الأولوية يقويه أن قيمة التعبد بالعبادات الأخرى، إنما يصدقه أو يكذبه سلوك المتعبد في باب الإنفاق.
وإذا كان اهتمام أبي العباس مخالفا لما كان يركز عليه الدعاة، فشخصيته كانت مخالفة كذلك، وقد نسبه بعض من راقبوا أحواله إلى الملامتية، وهي الطائفة المعروفة بتجنب ما يجلب المدح، وارتكاب ما يجلب النقد والملامة. وكان يرد على منتقدي أفعاله وأقواله بأن العبرة في حكم الله بما تنعقد عليه الضمائر لا بما يفهم من المظاهر، وجل ما كان يؤاخذ به كلمات واستعارات مأثورة عنه. قال أبو الحسن الصنهاجي، وهو من أصحابه: لما كان ذات يوم عرفة، أراد أبو العباس أن يبين لي فضل ذلك اليوم، فدعاني إلى خارج سور المدينة، فوجدنا باب الدباغين مغلقا، وكانت معي سبعة دراهم، فقال: ادفعها لأول داخل، فدفعتها لعجوز، ودخلنا بحيرة الرقائق، فقال لي أريد أن تنتصب على أربع، فقلت ما هذا الكلام؟ قال أمرتك بعادتك في الصلاة، فاستقبلت القبلة وركعت، فلما فرغت، قال: مرحبا بك يا قران، فاستنكرت كلامه، وقال: لأنك قرنت بين الصدقة والصلاة، قال: قل ما في نفسك فيما يخصني، فقلت: تمر بالمساجد ولا تصلي، فقال: في الحديث أئمتكم شفعاؤكم، قلت: تقول للناس: يا تيوس وهي فحول الماعز، قال لأن الناس يشبهونها في حب التقدم والظهور، قلت وتقول للمخاطب: يا قطيم وهو شديد الشهوة، قال هو عندي الذي يحرص على جمع الدنيا ولا يخرج منها شيئا، فقلت: تأمر الناس بالصدقة، ومن لم يكن عنده شيء تقول له: اجعل على ظهرك أسود، فقلت: هلا قلت له: قم الليل، قال لو قلت له ذلك لدخلني العجب.
هكذا يمثل أبو العباس شخصية غير نمطية تحتج على النفاق الاجتماعي والتكبر المظهري والتزمت الديني. مصداقا للأولوية التي يعطيها للظاهر إذا تعلق الأمر بالعمل وللباطن إذا تعلق الأمر بالنوايا.
ثانيا: القراءة الصوفية،
عاصر أبو العباس شيوخا كبارا في التصوف، ولم يعرف له شيخ في الطريق، ولكن سلوكه ومنظومته الفكرية مما يجعله في عداد رجال التصوف، ومن علامات ذلك قوله بأن العبادة ظاهر وباطن، وتتمثل صلته الأخرى بالتصوف في الحرص على خدمة الناس ومواساتهم، ولكن ربطه العطاء بالاستجابة، وتحقق ذلك بشكل مطرد، يتعدى مستوى الكرامة المعروفة لعامة المتصوفة، ثم إن الذي يعطي لتصوفه بعدا متفردا هو تركيزه على أن العطاء هو الطريق لتحقيق التزكية، أي الشرط العميق للتوحيد، بينما قام منهج معظم الصوفية المربين على جعل الذكر والخلوة والتأمل مرقاة لذلك المقام، فطريقته عملية إذا قورنت بطريقة غيره التي يغلب عليها الاستبطان وما قد يصحبه من التدرج في مسالك النفوس. لقد زار مراكش في الأعوام الأخيرة من حياة أبي العباس المتصوف الأندلسي الكبير محيي الدين بن عربي، ولقي أبا العباس، وفاوضه على حد تعبيره في أمور كثيرة، أي ذاكره، وعجب من أمره، وقارنه بالشيخ عبد القادر الجيلاني، وقال: أعطي السبتي ميزان الجود وأعطي عبد القادر ميزان الصولة، وهذا أتم، لأن السبتي استعجل أن يتصرف بالصدقة، ولو لم يرد شيئا في الدنيا لكان أمره أتم، ولكن مقامه في الذوق كان محمديا. هذا حكم ابن عربي، أما عموم الناس فقد اعتبروا السبتي من أهل الولاية والصلاح، فأدرجوه في الرجال السبعة المخصوصين بزيارة مرتبة في مراكش، ومعلوم أن كل واحد من هؤلاء السبعة إنما عظمه الناس اعتبارا للعمل الجليل الذي كرس له حياته، وعلى سبيل المثال، فالجزولي الذي يأتي بعد السبتي في الزيارة، قد اشتهر بعمل وطني جليل، هو استعمال الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، في التعبئة لتحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي، في بداية العصر الحديث، ولهذا فالتعريف بأمثال هؤلاء العظام، يفيدنا اليوم في إقناع أبنائنا، بأن أجدادهم إنما أقاموا القباب والأضرحة على رجال كرسوا حياتهم لأعمال نافعة، على أساس الإيمان بقيم رفيعة، ولم يبجلوهم من باب الشرك الذي ينسبه لهم البعض ظلما وعدوانا، وعلى العكس من ذلك فهؤلاء كانوا يربون على التوحيد القلبي الحق، وبهذه التوعية، إن جاءت على أيدي العلماء، سينكشف إجرام من يتجرأ على صالحي الأمة بالعداء والبغضاء، وعلى مزاراتهم بالهدم، جناية على الحقيقة والثقافة والتاريخ.
ثالثا: القراءة السياسية
عاش أبو العباس في العهد الموحدي الذي اتسم في بدايته بالتخوف السياسي من الشيوخ الذين تتجمع عليهم الجماهير، ومع ذلك شهد هذا العهد بروز مئات من أعلام الشيوخ الذين بنوا علاقتهم بالناس على أساس التربية الروحية والخدمة التي لا تشوش على عمل الدولة، وكان من هؤلاء المنسجمين مع الوضع القائم أبو العباس في مراكش، ومع ذلك فإن ابن عربي ذكر أن السبتي وجهت له تهمة ما، وأراد السلطان أن يعدمه بموجبها، ولكن الشهود قالوا: إن المتهم رجل عدل رضي. وفيما عدا هذه القصة، فالظاهر أن الأفق السياسي لم يكن غائبا عن مذهب أبي العباس، لأن السياسة في حقيقتها إنما تدور على قضاء حوائج الناس، وهكذا نجده يقول إنه عندما بلغ مقاما روحيا بحكم التنازل للفقراء عن ثلثي ما يقع في يده، صار له الحكم بالتولية والعزل، يقصد أن دعوته كانت تستجاب في تولية المنفقين وعزل البخلاء، وتؤيد ذلك قصة له مع المشرف، هكذا كان يسمى المكلف بتدبير المالية، فقد قال له يوما تصدق لكي يغاث الناس بعد انحباس المطر، فأجاب المشرف: "الله غني عنا" فقال أبو العباس: هذا الرجل عزل نفسه، وبعد أيام وصل من الخليفة قرار عزل المسئول المذكور، وقيل لأبي العباس: بم عرفت ما تنبأت له به؟
إن هذه الإشارة من أبي العباس تدل على أنه كان يؤمن بأن ما تقوم عليه السياسة الظاهرة من العلاقة بين المطالب والاستجابة أحرى بأن يصح في السياسة الغيبية التي تحض على الإنفاق للنفع والإصلاح وتجزي عليه. فهذه أدبيات في الحضارة الإسلامية تذكر لنا ما كان من الارتباط، في عقول الناس، بين الحاكم الخير النافع وبين جود الطبيعة وتكاثر الخيرات في عهده، ومقابل ذلك، ربطوا بين الحاكم الظالم وبين شح الطبيعة ونحس الأيام واطراد المصائب. وقد ظهرت شجاعة أبي العباس السياسية في عدة أمور منها أنه جعل من الأصناف الذين كان ينفق عليهم، بعض ضحايا الانقلاب الموحدي، وعلى رأسهم أحفاد علي بن يوسف وبقايا عمال ميورقا المعروفين ببني العزيز، وهو عمل يمكن أن يصنف في خانة ما يصطلح عليه اليوم ب "جبر الضرر".
رابعا: القراءة الاجتماعية،
من المعلوم أن أي نظام اجتماعي يتحدد بالموقف من المال، وهكذا فموقف الإسلام من المال يتلخص في مشروعية الكسب الحلال، وحماية التملك، والحض على أنواع السعي الذي نسميه اليوم بالمبادرة، فقد جرى تمويل الدعوة الإسلامية، في بداياتها، من أشخاص أثرياء، منهم خديجة أم المؤمنين وأبو بكر و عثمان، رضوان الله عليهم، ووقع الاجتهاد منذ العهد الأول في أن في المال حقا غير الزكاة، ولكن الذي حدث في الإسلام هو إثراء عدد من الناس بشكل غير معهود، واشتهر من المحتجين على هذا التمول السريع الصحابي أبو ذر الغفاري الذي استنكر كنز المال وعدم إنفاقه، ووازى هذا الإثراء توسع في عمران المدن حتى إن الناس رأوا فيه علامة على قرب قيام الساعة، وتغيرت كلية ملامح المجتمع البسيط الذي نشأ فيه الإسلام على التضامن، ومع توسع المدن ظهرت فئات من البؤساء والمهمشين، أمام هذه الوضعية ظهر التيار الزهدي بمثابة احتجاج ضمني على جمع المال وعدم إنفاقه، وهكذا فإن الازدهار الذي عرفته حضارة الإسلام في العصر الوسيط، على أساس التجارة، لم يوازه نظام تضامني منهجي واسع ومؤصل،أي أن المجتهدين لم يستوعبوا تبعات التحولات الاجتماعية الجديدة على مصير روح الإسلام في التكافل، وبقي الأمر ليبيراليا، والإنفاق مرهونا بالرغبة و الترغيب.
فالفقر الذي اتخذه التصوف شعارا فقر وجودي، يناسب موقع الإنسان أمام الله الغني،الفقر لا مقابل الثروة والغنى، بل مقابل الاستغناء.
ولو وقع الاجتهاد على أساس روح الدين، لظهر أن ما ييسر التضامن هو الاكتفاء بالضروري من وسائل المعاش، ولسار في اتجاه مذهب أبي العباس في القول بأن الزكاة المفروضة ليست سوى خريطة طريق ينبغي أن تكون لها امتدادات بليغة في المقادير وفي أنواع المستفيدين، لم يكن هذا المذهب بأي حال من الأحوال يروم علاج مشكل الفقر بالتسول، بل كان أعمق من ذلك حيث رأى أن البخل يجر اختلالات في نظام العالم، وأن علاجه يجب أن يكون بالإنفاق، والدليل على أن مذهبه لا يدخل في خانة المطالبة برد أموال الأغنياء على الفقراء، أنه لم يخص الأغنياء بالدعوة إلى الإنفاق، بل كان يدعو إلى التصدق من يملكون ومن لا يملكون، فإذا اعتذر له من لا يملك غير درهم واحد قال له: تصدق، ففي مثلك جاء الحديث المروي عن مالك: "سبق درهم مائة ألف درهم". فالمجتمع في منطقه لا ينقسم إلى أغنياء وفقراء، ولكن ينقسم إلى منفقين وبخلاء، فالعطاء المطلوب فضيلة نفسية وروحية لا ترتبط حصريا بالمال، لأن النفقة قد تكون كلمة طيبة وقد تكون إفشاء سلام وقد تكون خدمة أو مجرد إحساس كريم تجاه الآخر، بل ويشمل الإنفاق حتى اللذة إن كانت من حلال، وهكذا يمكن بمنظورنا اليوم إدراج الأخلاق المدنية والواجبات الوطنية والحقوق الإنسانية في هذه المنظومة الشاملة، أما المال فالتمييز فيه ينبغي أن يكون بين نوعين، مال مطلوب استكثاره من أجل بذله في الخير والنفع، ومال يجر إلى الفساد والطغيان،
من كل هذا يتضح اليوم أن الاختلال الذي يبحث الإنسان عن إصلاحه، باقتراح نظريات سوسيو اقتصادية، يتعذر تحقيقه ما لم يعتبر الإنفاق بمعناه الشامل،خلقا عاما، وما لم يعتبر الشكر في مقابل العطاء مقرونا بعقيدة الاستخلاف في الأرض، فما لم تترسخ هذه العقيدة فإن التوترات الاجتماعية ستظل تقض مضجع الإنسان. وسيظل هذا الإنسان مهموما بالتكاثر وبمقايسة نفسه مع الغير، والمقايسة جحيم نفسي بتمني ما عند الآخرين، ولو ساد خلق الجود لتمنى المرء لغيره ما يحب لنفسه.
خامسا: القراءة الفلسفية
اشتهر أبو العباس بمذهبه في المغرب والأندلس إلى حد أن الفقيه الفيلسوف ابن رشد الحفيد، أرسل للاستخبار في شأنه شخصا عالما يعرف بابن الفرس، قال هذا الأخير: بعثني أبو الوليد بن رشد من قرطبة وقال لي: إذا رأيت أبا العباس بمراكش فانظر مذهبه وأعلمني به، قال: فجلست مع السبتي كثيرا إلى أن حصلت مذهبه، فأعلمته بذلك، فقال لي أبو الوليد: هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود، وهو مذهب فلان من قدماء الفلاسفة. الظاهر أن القضية التي أثارت اهتمام ابن رشد هي قضية السببية، فقد وجد أن الأمر يتعلق بمذهب له عنصران أساسيان: فعل الجود وأثره في الوقائع، وقد رد السبق في القول بانفعال الوجود بالجود إلى فيلسوف قديم لم يصلنا اسمه، وقد يكون أحد السابقين عن سقراط من أمثال أمبيدوكليس الذي تحدث عن قيام سنة الكون على ثنائية الحب والبغض، بما يشبه كلام صوفية الإسلام عن ثنائية البسط والقبض، ولكن السؤال الجوهري هو الآتي: أليس في القرآن الكريم ما يؤسس لمذهب أبي العباس حتى يطلب له تأصيل في الفلسفة القديمة؟ فالمعلوم أن هذه الفلسفة قد ولدت في نسق لا حضور فيه للفاعل الواحد كما جاء به الوحي. الجواب هو أن السبتي في مذهبه إنما تحقق عمليا، ظاهرا وباطنا.
يذكر ابن عربي أنه يشترك مع أبي العباس في فهم نسقي للقرآن، ومن هنا نفهم مؤهل أبي العباس لاستخراج أولوية الإنفاق. ثم إن القرآن قد نص في مواضع شتى على أن فعل الإنسان تنفعل له الطبيعة، ولكن تلك الاستجابة تكون بفعل فاعل.
فالطبيعة تنفعل بأمر الله أو إذنه أو وعده أو تسخيره أو سنته، وليس في استقلال عن الفاعل، وعلى هذا فالعطاء من الإنسان تقابله في صفات الله تعالى صفة البسط.
ذكر ابن الزيات أن شخصا سأل أبا العباس قائلا: بم تنفعل لك الأشياء؟ فأجاب: "هذا لا يعرف إلا بالعمل". أراد أن يقول إن النظر لا يمكن أن ينفذ إلى كنه الحلقة بين فعل الإنسان وما يترتب عنه من الآثار. والواقع أن مركزية العمل متأصلة في القرآن.
ومن حيث المقابلة مع الفكر الإنساني قد تجوز الإشارة إلى أهمية العمل في الفلسفة، ومن ذلك المفهوم الكانطي للبراكسيس، هذا المفهوم الذي استعمله الماركسيون، واستعمله في القرن العشرين زعماء ما سمي في أمريكا اللاتينية بالفهم التحرري للدين Liberation Theology، وقصدوا به تغيير ظروف الفقر في المجتمع بمرجعية مسيحية، أي بتطبيق تعاليم الإنجيل، تفضيلا للعمل على المناقشات اللاهوتية المعقدة، وكذلك اعتقد أبو العباس أن التطبيق العملي لتعاليم القرآن في الإنفاق هو السبيل إلى الخير كله.
ومن المناسب أن نشير إلى أنه في نفس عصر أبي العباس، شاع في أوروبا المسيحية أن الإنفاق من منطلق الدين، هو القيمة التي تعلو كل القيم والفضائل، كان ذلك زمن عودة المدن في أوربا بعد العصر الفيودالي، وتوسع عمرانها وبروز واقع اجتماعي متسم بالهشاشة، لقد كان أبو العباس معاصرا للقديس الشهير سان فرانسوا داسيز، وهو من المراجع المسيحية في الاهتمام بالمحتاجين، وفي العصر الحديث وجد مفهوم الجود مكانه في الطرح الفلسفي لاسيما عند ديكارت وسبينوزا، فالجود عند هذا الأخير هو ضمانة العلاقة السوية بين الفرد والجماعة، وهذا يعني أن الإنفاق يؤسس للتقارب بين الناس، ويشكل المظهر الأنفع الذي يجعلنا على مثال الله، وهو سبحانه الذي ليس كمثله شيء،
أما أبو العباس فلم يخض في مسالة الحرية التي نمارسها عند الإنفاق، هل هي حقيقية أم وهمية، كما سيطرحها فيما بعد كل من ديكارت وسبينوزا، ولكنه قال: لا يصح الإنفاق إلا إذا كان في سبيل الله، غير أنه لم يصح الإنفاق في سبيل الله خالصا إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نحن فلسنا سوى تجار نبتغي الجزاء بحسب عدل الله المقابل لسعي الإنسان، ولكن هذه التجارة مع الله، ليست كالتجارة مع البشر ،فربحها أضعاف مضاعفة، وهي فوق ذلك سبيل شرح الصدر وفتح البصيرة، ومن منظور شرح الصدر نفهم قول أبي العباس: إنه بالتنازل عن الثلثين صار لي عقل آخر. وهذه غاية الحجة على تأثير العمل على الوعي الذي هو من جملة الوجود، غير أن أبا العباس لم يكتف بإعلاء العطاء إلى مرتبة قيمة القيم كما رأينا في الفكر المسيحي، بل جعله مرادفا للأمانة التي حملها الإنسان.
حلل المفسرون الاستعارات الواردة في هذه الآية ولكنهم عدوها من مشكلات القرآن التي حاروا في تفسيرها، ومرجع ذلك في رأي صاحب التحرير والتنوير إلى تقويم معنى العرض على السموات والأرض والجبال، وإلى معرفة معنى الأمانة، وإلى معرفة معنى الإباء والإشفاق، و قد اختلفوا في معنى الأمانة على عشرين قولا، فقيل هي جميع الفرائض وقيل هي التوحيد، وقيل هي العقل، وقيل هي خلافة الله في الأرض، أما أبو العباس السبتي فكان يشرح معنى الأمانة في هذه الآية بأنها الرزق، فيقول: "فالسماوات، وإن كانت قد أبت حمل الأمانة فإنها أعطت ما عندها من المطر، والأرض أعطت ما عندها من النبات وغيره والجبال أعطت ما عندها من المنافع، وهذه أرزاق جادت بها، أما الإنسان فقد صار خازنا لما يجتمع عنده من خيرات الطبيعة، فيمنع منه المساكين، وبهذا الإمساك والخزن كان ظلوما جهولا. هكذا عبر أبو العباس، واللافت للنظر أنه مدح الطبيعة لعطائها وذم الإنسان لبخله، ولو عاش في عصرنا هذا لذم الإنسان مرتين، مرة بسبب البخل، ومرة ثانية بسبب الإفساد الكبير الذي ألحقه بالطبيعة المعطاء، حتى صرنا نتكلم عن خطر نفاد الموارد الطبيعية وعن الكارثة الإيكولوجية.
مولاي أمير المؤمنين
نخلص في الأخير إلى القول بأن السبتي ربط الجود باستجابة القدر، واعتبره، لا سببا في إصلاح العلاقة بين الناس في المجتمع الأرضي فحسب، بل ناظما للعلاقة التي تحكم التفاعل بين الإنسان والطبيعة، فالجود في مذهبه ليس مدرا للخير وكفى، بل هو بنفس الاعتبار، دافع للشر كذلك، ولا يخفى ما تعرضت له البشرية من الشرور، عبر وقائع التاريخ تارة وبكوارث الطبيعة تارة أخرى، فالمعروف عند المسلمين أن الشر يدفع بالصدقة على مستوى الأفراد، لكن لا أحد تنبه إلى تصور نظام اجتماعي على مستوى البلدان، أو نظام كوني على مستوى العالم، مبني على التضامن بغرض تجنيب الشر للعالم.
مولاي أمير المؤمنين
قد يكون من العرفان والإنصاف أن يقام لسيدي بلعباس في وقتنا الحاضر، نصب أو تمثال في مدينة مراكش، وإلى يومنا هذا والصدقات المودعة في ضريحه تخفف من آلام ثلاثة آلاف من فاقدي البصر المسجلين في قوائم الضريح، وما يزال الصناع في مجموع المغرب، ولاسيما صناع الإسفنج والخبز، يتصدقون بباكورة صنعتهم، ويسمونها "العباسية"،وهذا من الآثار الباقية لهذا المذهب في ثقافة الشعب المغربي. إننا لا نتصور سيدي بلعباس في الحقيقة راضيا بنصب أو تمثال، ولكنه سيرضى ويسعد لو تقرر تدريس الجود، بمعناه الواسع، في مدارس بلده، تدريسه على أنه القيمة الأولى في التدين، وذلك بكتاب مدرسي في التربية الدينية والوطنية، يشرح الجود للأطفال طيلة سنوات التعليم الأساسي، في دروس مصحوبة بتطبيقات في خدمة الغير، يؤديها الأطفال للجماعة، قبل أن يكبروا ويمتلكوا الأموال.
مولاي أمير المؤمنين
إن المؤشرات تدل على أن الدعوات إلى التضامن ستتكاثر في المستقبل القريب، تحت تأثير الأخطار التي تتهدد العالم، وسيتردد في المحافل استعمال كلمة أجنبية هي كلمة partage أو sharing ، وتترجمان كلمة المشاطرة التي استعملها أبو العباس في المرحلة الأولى من مذهبه، فالتضامن بالمعنى العباسي أضحى في عالمنا لا مجرد اختيار، بل ضرورة اقتصادية واجتماعية وخلقية حتمية، لأن مجتمع السلم الذي يحلم به الناس لا وصول إليه قط إلا عبر مجتمع الجود والتضامن، بين الأفراد والطبقات والدول والقارات.
مولاي أمير المؤمنين
إن فكرة الجود كما جاء بها السبتي قيمة عظمى في الرأسمال اللامادي الذي أسهم به المغرب في فهم الدين والحياة. وأنتم يا مولاي وارث هذا الرأسمال اللامادي ومجدده بما يناسب من اجتهادات عصرية، وخاصة بفضل ثلاثة توجهات في سياستكم الجارية:
أولا: بفضل رعايتكم لأعمال التضامن، وبضرب المثل على ذلك بشخصكم الكريم، وبالمؤسسات التي أنشأتموها لهذا الغرض، وبتحريضكم الفاعلين في جميع القطاعات على الإسهام في أعمال الخير والبذل، سواء بالمباركة أو الدعم أو التحفيز الضريبي للنفع العام، ناهيك عن أعمال المواساة الظرفية التي تغيثون بها أصناف المصابين، وعن أنواع الحقوق التي تقررت بالقانون في عهدكم لذوي الحاجات أو الإمكانات المرصودة لهم من الميزانية العامة للدولة؛
ثانيا: من خلال حمايتكم للدين الذي هو منبع الجود الموصول بأصله في أسماء الله الحسنى، ورعايتكم للبعد الروحي للدين القائم على التزكية والتحلي بالتوحيد، هذا المنهج المولد للإرادة الخيرة الخالصة من نوازع الأغراض والحظوظ.
ثالثا: من خلال ريادتكم لسيرورة التنمية الديمقراطية، لأن الاستقرار والطمأنينة السياسية والإرادة الحرة ضمانات لبيئة الجود والإيثار، وحيث إن الغائب الأساسي عن الديمقراطية الحديثة هو الدين، فإن اقتران الديمقراطية التي ترعونها بالدين فيه جمع بين الحياة ومعنى الحياة، والكمال المنشود هو في إعلاء الجود في جميع أبعاده كقيمة مركزية، تربي عليها الأسرة وتنميها المدرسة ويحض عليها المسجد وتؤازرها التوجهات الاقتصادية وتتسم بها الالتزامات السياسية، حتى يتأتى بناء مجتمع السلم ابتداء من شكر الإنسان، مجتمع تباركه السماء وتلفه الألطاف وتغمره المرحمة".