سبحان الله، لم تقم الزوبعة حول الغش إلا بعد أن وقعت الواقعة في امتحانات البكالوريا هذه السنة وكأنّ البكالوريات الماضية في الحكومات الفائتة كانت في غاية الشفافية وفي كامل النزاهة أو قُلْ كانت مثالية. وسبحان الله أنك تجد من يصيح اليوم، شاهراً لسانه ويده، ضد الغش وهو الذي ظل صامتا جامدا كالصّنم لا تهزّه رياح ولا فضائح. كأننا أمّة خُلِقَت بالأمس وما زالت حديثة العهد بالحياة. كأننا نعيش في مجتمع فاضل بمدينة فاضلة لا يمُسُّهُما الباطل من بين أيديهما ولا من خلفهما. نلعق الغش في كل يوم ونبتلعه من طلوع الشمس إلى غروبها من دون التّجَرُّؤِ على التّذَمُّر والشكوى فبالأحرى إثارة حَفِيظَة أحد؟ هل نسينا الغشاشين الذين استهانوا ببلد بكامله، في فجر استقلاله، وهم يعرضون ما سُمِيَ وقتها بفضيحة الزيوت المسمومة، الممزوجة بمشتقَّات من وقود الطائرات، كما قيل حينها، في الأسواق. تلك الزيوت التي خلّفت مئات من المواطنين المشلولين ما زالوا يُعَانُون إلى اليوم إلى جانب ضحايا، منهم من قَضَى ومنهم من ينتظر إعادة فتح ملف هذه الفضيحة التي أبى الغشَّاشون إلا أن يُدَشِّنوا بجريمتهم هاته عهد الاستقلال؟ هل نسينا أولئك الذين باعوا واشتروا في كل شيء بهذا الوطن، وينسَلُّون من جرائمهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين ليعودوا إلى قواعدهم في كامل النشاط؟ هل نسينا فضائح المطاعم المدرسية والأطفال المسروقين الذين تم الاِتِّجَار بهم في سوق نخاسة عصرية؟ هل نسينا أولئك الذين كانوا يبيعون، نهارا جِهاراً، لحوم ونَقَانق الحمير والكلاب ـ وما خفي أعظم ـ لإخوانهم وبني جلدتهم؟ هل نسينا الذين أقاموا شبكات دعارة سمحت لهم بالتغرير بقاصرات و"تصديرهن" في مختلف بقاع العالم لعرض أجسادهن؟ هل نسينا تجار العقار الذين يعرضون "صناديق" وبنايات تتهاوَى وهي في طور البناء؛ وأصحاب المخدرات وجميع أنواع الخردات ..؟ وماذا عن الغشّاشين في بناء وإعداد الطرقات والقناطر، وفي التهييء والتّعمير..؟ هل ننسى مسلسل الغش الطويل العريض في مختلف التجارب الانتخابية التي يَأْبَى أصحابه إلا أن يجرّوا وطناً بكامله، بما يحمله من حضارة وتاريخ وثقافة، إلى الخَلْف ليبقى قابعا في أدنى درجات التطور والتنمية؟ الآن، يوجد في الأسواق وفي الشوارع من يبيع أيّ شيء: أدوية وأية أدوية، أعشاب وأية أعشاب، ملابس وأحذية ولُعب وأجهزة منزلية؛ الدرّاجات وحتى السيارات حتى لَكَأنّ الغش يكاد يخرج منها وهو يصرخ "اللهم هذا منكر". ولا من يسمع أو يستجيب. وكل هذا وهناك من يُشَرْعِنُ كل أعمال الغش بتكريس قاعدة ملغومة تقول: "الله يجعل الغفْلَة بين البائع والمشتري". ياسلام. أما الغش في التوقيت والمواعيد، فشيء أصبح عاديا وجاريا به العمل، بل يُؤَثِّثُ معاملاتنا فيما بيننا أو مع المؤسسات. بائع الزيت يعرض زيته وهو مغشوش. بائع الفواكه يقدّم فواكهه وهي في حالة يُرْثَى لها من التّعفُّن. نفس الكلام عن بائعي "المعقودة" و"الصُّوصِيط" و"الْبَّانِينِي" ومختلف أنواع الأكلات الخفيفة و"السندويتشات" الشعبية التي تئنّ منها الأزقة والدّروب. وحدِّث ولا حرج عن سائر الباعة الذين يعرضون موادهم وهم يعرفون ما فيها وكيف هي، ويُقْسِمُون بأغلظ الأيمان بأنها طيبة، حلال، أصلية... لم تنفجر فضيحة البكالوريا إلاّ بعد أن بلغ السَّيْلُ الزُّبَى وكأنّ "العفاريت" و"التماسيح" أصبحت على دِرَايَة تامة بتقنيات "الفايسبوك"، "التْوِيتْر، الْوَاتْسَاب" وسائر وسائل شبكات التواصل الاجتماعي لاستعمالها وتوظيفها، شرّ توظيف، في امتحانات البكالوريا كعملية تجريب للامتحانات ـ الاستحقاقات المقبلة. إنه "الغشّ اللِّي فِينا". وكل عملية غش تلد، من خلال عملية جنسية مثيرة، عمليات أكبر وأفظع وأقبح.