لعل فيروس التّرْحَال السياسي بين الأحزاب لم يتم القضاء عليه بصفة نهائية بالرغم من أن القانون المتعلق بالأحزاب، الذي صَوَّتَ عليه البرلمانيون أنفسهم، يمنع ويحظر هذا النوع من التّجْوال. لكن البرلمانيين، أو المهوُوسين منهم بالتجوُّل، ينتظرون نهاية ولايتهم النيابية لِيَتَحَلَّلُوا من أيّ التزام يجمعهم بحزبهم، ويُغَيِّرُوا وِجْهَتَهم نحو هيئة أخرى. فيروس التِّجْوال ما زال ينخر كيان الأحزاب. وما كان له أن يبقى بهذه القوّة لولا وجود الجسم ـ النّيابي ـ المناسب لاحتضانه لينخره بالطريقة التي يشاء. ومع اقتراب الانتخابات الجماعية والجهوية يعطي بعض من يُصَنَّفُون في دائرة "ممثّلي الأمة" الفرصة لهذا الميكروب الخطير للانبعاث من جديد وَيَعِيثَ فيهم كيفما أراد. وهذا يؤكد أن ظاهرة التّجوال التي يقوم بها هؤلاء الممثّلون النيابيون ما زالت قائمة، ولم يتم وضع حدّ لها لا بالقانون ولا بالنّاي، بل هناك من يتحدّى القانون ويضرب الدَّفَّ فرحا باستمرار هذا النزيف الذي ما زالت الأحزاب تعاني منه رغم الخطب والتصريحات التي يُدْلِي هذا "الزعيم" وذاك، والتي تبقى مجرد كلام حماسي لِدغْدَغَة العواطف. الجميع يتحدث عن القانون المانع للِتِّجْوَال السياسي، وأغلبهم يَدُوسُونَه دَوْساً على إيقاع التصفيقات والصيحات التي تُهَلِّلُ لـ"الزعيم" وخطب "الزعيم". كان بالإمكان أن نُقْنِعَ أنفسنا بأن أغلبية الأحزاب تصدّت لهذه الظاهرة وحاربتها بالشكل المطلوب، لكن الكثير منها لا تفعل شيئا سوى اجترار الكلام وإطلاقه على عواهنه لإثارة الإعجاب واسْتِدْرَارِ التعاطف من أجل تشكيل كتلة انتخابية في الاستحقاقات، واعزف أنت على أوتار قانونك بالطريقة التي تُطْرِبُك بينما الفيروس الظاهرة ينشط بكل حرية وأمان ما دام أن الأحزاب المعنية وبرلمانِييهَا المعنيين يمارسون هواية ـ إِنْ لم نقل حرفة ـ التجوال السياسي، باطمئنان كامل من دون أن يخْشَوا لَوْمَةَ مناضل. اليوم في زَيّ وشعار هذا الحزب وغداً "يفتح الله". وعلى هذا الإيقاع ـ وهو رتيب حقّاً ـ تستمر الفتوحات والاختراقات المُوَاكِبَة للانتقالات التي تُشْبِه إلى حدٍّ ما انتقالات اللاعبين ـ مع وجود الفارق ـ من فريق إلى فريق خاصة عند اقتراب نهاية منافسات البطولة لِتُُفْتَح الأبواب والنوافذ على مصراعيها لعملية "بيزْنس" فظيعة بِناء على عُقُود تتعرّض لِلْفَسْخ في أية لحظة. وكفى الله المتعاقِدِين صداع الرأس الذي لا يجلب سوى الأوجاع والآلام. كنا نعتقد أن بعض أحزابنا، على الأقل، لها ما يكفي من المَنَاعَة التي من شأنها أن تصُدَّ صَدّاً هذا الوافد الغريب التي أجمعت هي نفسها على محاربته والقضاء عليه، ليظهر أنّ لها خِبْرَة كبيرة في محاربة بعضها البعض، وبالأخص الوافدين الجدد من الأحزاب، وكأنّ الساحة السياسية تم تحفيظها وتسجيلها باسمها فقط. النزيف موجود والعَدْوَى مستمرة، لا يستثنيان جهة أو هيئة، بل تكتسحان بقوة الساحة ومن فيها. والأحزاب تتبادل الغزل مع المُنْتَخَبِين المستعدّين لِقَلْب "الْفِيسْتَة" ومعها الطاولة على وجه زعيم الحزب من أجل الانتقال إلى الضفّة الأخرى. ولا تجد هذه الأحزاب غَضَاضَة في فتح أبوابها وفضاءاتها ترحيباً بالوافد الجديد نِكَايَةً بحزبه وقواعده وكأنها تقول لهم: مُوتُوا بِغَيْظِكُم. الفيروس موجود في سائر الأحزاب، وكل حزب يترقّبُ الفرصة المناسبة لإِنْزَالِ الضربة القاضية على غريمه من خلال استنزافه من الداخل. وما عملية التّجْوال إلاّ سلاح من الأسلحة الفتّاكَة التي يتم اللّجوء إليها في هذا المجال. إنها حرب حقيقية للتعبئة والاستقطاب وتشجيع الراغبين في التّجْوال السياسي على الالتحاق بأسرع ما يمكن بالحزب الجديد. إنها عملية تهجير جماعي؛ عملية تهريب سّرِّي تتم في جنح الظلام ليتم الإعلان عنها في الصباح بالتصريح المُبَاح. وفي هذا حَدِّثْ ولا حَرَج.
حمادي الغاري