ما بين بروكسيل وتندوف مسافة الألف ميل، لكن هناك خطوط النظام الجزائري لتطوي المسافات حتى ولو وصلت، كعادتها، متأخرة عن الموعد. المهم أن تُوصِلَ بعثة الانفصاليين من أجل الاحتفاء بذكرى حركتهم في بلد من بلاد العجم على إيقاع كؤوس الشامبانيا والويسكي وما جاورهما. على الأقل من أجل نسيان سلسلة الكَبَوَات والنّكسات الأخيرة، الحاسمة، التي مُنِيَت بها هنا وهناك: من فضيحة تحويل وتهريب المساعدات الإنسانية إلى صعقة مجلس الأمن الدولي، مروراً بالاِتّجَار في المخدرات وقمع كل من تُسَوِّل له نفسه مجرد المطالبة بقطرات ماء عَلَّهَا تُشْفِي غليل الظمإ القاتل هناك في تندوف، وتعذيب وقتل المطالبين بالتغيير.. بما أن الاحتفاء تمّ بالعاصمة البلجيكية، فإن "القاعدة" تقتضي تهييء الأجواء المناسبة. وليس أحسن ولا أجمل من اختيار حانات الفنادق الفخمة حيث يحلُو الإمتاع والمُؤَانَسَة باحتساء كؤوس الخمر المُعَتَّقَة في حضرة قيادة "حركة تحرير" لم تستطع تحرير نفسها من نظام وصاية فرض عليها، منذ أن تَلَقَّفَها والتقطها من نظام العقيد القذافي، ألاّ تَخْطُو خطوة أو تنبس بكلمة إلاّ باستشارته وانتظار تعليماته. هذه المرة جاءت التعليمات، من النظام الراعي للحركة، بالخروج من تندوف، التي يقتلها العطش والصّهْد، إلى رحاب بروكسيل الفاتنة من أجل تغيير الأجواء والعمل على كسب المزيد من الزبناء لِصَفِّهِم. وكانت أول وسيلة "نضالية" يتم التفكير فيها من أجل إحياء الذكرى بَسْطُ الموائد وعليها ما لذ وطاب من الأكل والشراب، وبالخصوص الْمُدَام. الغريب أن عدد الذين أَقْبَلُوا على الموائد الزاهية بالشمبانيا والويسكي كانوا من مسلمي قيادة "حركة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" (البوليساريو)، بينما المدعوون من العجم والنصارى وغيرهم يَرْقُبُونَ الوضع بازدراء وهم يتابعون تهافت "قياديين" و"مناضلين" على القِنّينَات وما تَبَقَّى فيها من قطرات الشراب لِيَرْوُوا ظمأهم قبل أن يعودوا في صباح اليوم الموالي إلى تندوف، عبر المرور الإجباري بالجزائر، لتقديم حصيلة سهرة الاحتفال بالذكرى والعمل الذي تم ـ هناك في حانات بروكسيل ـ من أجل الدفاع عن "قضية الشعب الصحراوي" و"تقرير المصير".. في انتظار الحسم في العام القادم. في الجهة الأخرى، وتحديدا في مخيمات تندوف، مواطنون محتجزون لم يعرفوا كيف بدأت المأساة ـ مأساتهم ـ ولا كيف ستنتهي. هناك من مات. هناك من هاجر إلى أرض الله الواسعة. هناك من عاد إلى الوطن الغفور الرحيم. هناك من ينتظر العودة إلى أرضه وعائلته وذويه، يتطَلَّع إليهم من وراء السراب. مواطنون يبحثون عن قطرة ماء لِيُبَلِّلُوا بها شفاهم من لظى عطش ترتفع حِدَّته بارتفاع درجة الصَّهْد والحرّ. ولْيَمُت منهم من يموت. ولْيَقْضِ منهم من يَقْضِ. هناك من "يدافع" عن قضيتهم على موائد الأكل الطافحة بِكُوكْتِيل يُسِيلُ اللُّعَاب، و"يَفْدِيهِم" بالشمبانيا والويسكي بترديد نشيد "على كأسك يا وطن". هكذا يتم إغراق "القضية". هناك من يأكلون حدّ التّخْمَة وما زالت بطونهم تَتَدَلَّى وهي تطلب المزيد. وهناك من يبحثون بين الخيام وبين الرمال عمّا تَبَقَّى من كسرة خبز ورائحة طعام أو ما شابههما في انتظار قُدُوم صهريج ماء من الجزائر.. إذا وصل. هناك من يشربون ماءً آخر. وهناك من يبحث عَمَّاذا يشرب "بِقِيعَةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا". محتجزون، عُزَّل، أمام ثالوث رهيب يقْبَعُ فوق رؤوسهم: تغذية سيئة ومجاعة وعطش. أما من يتحدثون باسمهم فيقرعون كؤوس الرّاح في بروكسيل ويقرعون طبول الحرب في تندوف.
حمادي الغاري.