إلى الأديب المغرب المدقق .. نور الدين محقق
" إن المقامات تشبع الإحساس الوهمي بالترف الذي هو سيد المطالب : و ربما استطاع بديع الزمان أن يوسع مفهوم الترف : و أن يحتج له ، و أن يحيطه برعاية غريبة " – مصطفى ناصف
تقديم :
تميز الأدب العربي القديم بثراء فكري و جمالي قل نظيره في الآداب العالمية الكلاسيكية ، و إذا اقتصرنا على العصر العباسي الذي توج مسيرة الإبداع الأدبي العربي ، و صعد به نحو التوهج الكوني ، سنجد أنفسنا أمام شعراء و ناثرين عباقرة أغنوا المنجز الأدبي أداة و رؤية ، فالمتنبي و أبو العلاء المعري و الحريري و بديع الزمان الهمذاني كواكب ساطعة في سماء الصوغ الأدبي الباذخ . و لئن كان بعض النبهاء قد اعتبروا مع قدر يسير من المبالغة أن الشعر ديوان العرب بفضل خصوصية القصيد ، الذي تمكن بحق من تخليد الملاحم العربية حضاريا و ثقافيا و جماليا ، فإن النثر العربي لم يكن أقل من الشعر في البوح بأدق و أرق و أعظم القيم الإنسانية النبيلة ، سواء تعلق الأمر بالرسالة أو الخطبة أو الحكاية أو المثل أو المقامة ..
المقامة فن عربي أصيل :
أجمع الدارسون و المعنيون بالشأن الأدبي الكلاسيكي أن المقامة جنس أدبي أصيل ، جاء نتيجة للتطور الثقافي و السياسي و الاجتماعي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ، و بالتالي هو ثمرة لتطور داخلي و نوعي للفكر الأدبي العربي بعد قرون من البناء الحضاري ، و المقامة في المحصلة الأخيرة حكاية شعبية قصيرة صيغت في قالب لغوي بديع جمع بين " أدبية " الشعر و النثر ، و استندت إلى أسلوب يستحضر مختلف المحسنات البلاغية من سجع و جناس و تصوير و طباق و مقابلة .. و تسلط الضوء على قضايا المجتمع اليومية . و يعد بديع الزمان الهمذاني ( 358 – 398 ) التاريخ الهجري ، من أشهر كتاب المقامات إن لم يكن أبرزهم في التاريخ العربي القديم و الحديث . و إذا كان الهمذاني قد أنشأ حوالي أربعمائة مقامة ، فقد وصلتنا من هذا الكم الكبير اثنتان و خمسون مقامة فقط . و تحتل المقامة المجاعية الرتبة الخامسة و العشرين ضمن باقي المقامات الأخرى : ( مقامات بديع الزمان الهمذاني – دار الكتب العلمية ؛ بيروت – لبنان – الطبعة الثالثة : 2005 )
المقامة المجاعية : المبنى و ... المعنى :
على غراء البناء الفني لمختلف المقامات الهمذانية تتشكل المقامة المجاعية من السند و المتن ، أو من الإطار و المحتوى ، فأما الإطار فيتجلى في العبارة المسكوكة : " حدثنا عيسى بن هشام قال " : و غني عن البيان أن بديع الزمان الهمذاني قد " فوض " للراوي عيسى بن هشام مهمة الحكي و الرواية ، فهو يحكي عن كل ما يصادفه في المجتمع البغدادي من مظاهر القوة و الضعف و المعرفة و الجهل و العدل و الظلم و الغنى و الفقر و السيد و العبد و الصدق و الكذب .. كل ذلك عبر شخصية مركزية : أبو الفتح الإسكندري الذي اشتهر بالذكاء و الفطنة و التمكن من المعارف الأدبية و اللغوية والدينية و اقتفاء سبل المكر و الخديعة و الكدية ، و قد وظف كل هذه القدرات المخصوصة للاستجداء و طلب المساعدة في الأسواق و الطرق و اللقاءات الجماعية .
و تبدأ المقامة المجاعية بإشارة الراوي عيسى بن هشام إلى كونه كان في بغداد عام الجوع ، فتوجه إلى جماعة من الأفراد يطلب منهم يد العون للتخفيف من وطأة الجوع و الإحساس بالغربة ، و لما كان الجوع أكثر حدة على الراوي ، سأله غلام من الجماعة عن الأكل الذي يود أن يتناوله ، هل هو رغيف و بقل خل و خردل و شواء، أم أوساط محشوة و أكواب مملوءة ، أم لحم طري و سمك نهري.. فكان جواب الراوي عيسى بن هشام أن قلبه يهفو إلى كل هذه الأنواع من المأكولات ! فرد عليه أبو الفتح الإسكندري بعد أن عرض عليه ما طاب و لذة من أصناف الأطعمة ، و بلغة تقطر بديعا و تتلألأ بيانا و تهتز تنميقا : ما كنت لأحرمك منها لو كانت متوفرة !
يمكن القول إن الطابع الخيالي و النزعة الإبداعية لهذه المقامة بالغة الجودة اللغوية و السبك البديعي ، جعلا منها منجزا فنيا ، يحفل بالسخرية الهادفة و النقد الجمالي ، لواقع اجتماعي يفتقد إلى الإنصاف و التوازن . مما أفسح المجال أمام دنيا الأحلام و الأوهام اللامحدودة ، و الترف اللغوي المقصود ، الذي جاء لتحقيق عديد من الأغراض الظاهرة و المستترة ، لعل من بينها التعويض عن الخصاص المادي و الاجتماعي ، بالوفرة اللغوية فائقة التجمل البديعي و البياني ، في ظل نسق سياسي عربي موسوم بالحرمان و التهميش و الظلم الاجتماعي ، الذي " تمطى بصلبه " ، و خصوصا في العقود الأخيرة من القرن الرابع الهجري من تاريخنا العربي المديد .
خاتمة :
و عليه سنرتكب خطا جسيما إذا اقتصرنا على تكرار ما اعتاد الدارسون " المختصون " من كون فن المقامة سواء على يد الهمذاني أو الحريري و غيرهما ، هو رمز للتكلف و التصنع البديعيين بلا طائل ، بل إن التفنن البلاغي الذي صيغت من خلاله المقامات بشكل عام ، هو بمعنى من المعاني استقراء غير مشروط للذات العربية الجريحة ، و استكناه " للتشققات الوجودية في الانعطافات المصيرية للإنسان العربي .
الصادق بنعلال – باحث في قضايا الفكر و الأدب