قبل بضع سنوات كنت طرفا في نقاش ساخن حول الموقف الذي ينبغي اتخاذه من خرجات الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في قضية الصحراء.
كانت وجهة النظر المطروحة على مائدة الأخذ والرد تذهب في اتجاه الدعوة إلى حل الجمعية. وأذكر أن جوابي في شقه النظري جاء مقتضبا: «مهما بدت الجمعية مخطئة في توظيف الهامش الديمقراطي (حينها) في المغرب، لا يمكن للديمقراطية أن تدافع عن نفسها بأدوات استبدادية»…
وكان من حسن الحظ أن انتصر التوجه العام في النقاش لهذه الفكرة. ومن باب الصدفة حدث أن توصلت في تلك الفترة من الأستاذ فؤاد عبد المومني بعريضة تضامنية مع الجمعية، لم أتردد في التوقيع دفاعا عن حقها في التواجد القانوني والتعبير الحر عن الرأي، وفي الوقت نفسه احتفظت لنفسي بحق النقد كلما بدت لي الجمعية «طوبيسية الموقف»، وهي تصرف الاختيارات السياسية لحزب النهج الديمقراطي، وكلما انحرفت عن الممارسة الديمقراطية لتتحول إلى تلميذ نجيب للاستبداد المخزني سنوات اختطاف صناديق الاقتراع.
رحلت بي الذاكرة إلى كل هذا وأنا أتابع مساء الأربعاء 20 ماي نشرة «الساعة المغاربية» على قناة «فرانس 24». كانت القناة التابعة للخارجية الفرنسية، والتي تعتبر رفقة زميلتها « Afp» زكريا المومني ضيفا فوق العادة كلما تعلق الأمر بلحظة خاصة في العلاقات بين الرباط وباريس، قد ارتأت أن تسلط الضوء على نفي وزير العدل مصطفى الرميد أن يكون القضاء المغربي قد توصل بأي وثيقة من نيابة باريس بشأن اتهامات مزعومة لعبد اللطيف الحموشي في قضية التعذيب التي رفعها ضده زكريا المومني.
إلى هنا كان كل شيء عاديا، لولا أن مقدمة نشرة الأخبار ستخبرنا أنه ولمزيد من الإيضاح في النفي، ستستضيف أحمد الهايج رئيس الجمعية المغربية لحقوق لإنسان، كان مصدر دهشتي هو سوء النية الذي تحكم في اختيار الضيف، فهو ليس مسؤولا لا بوزارة العدل ولا بنيابة باريس، ولا محاميا لزكريا المومني أو للدولة المغربية. بأية صفة سيتحدث الهايج؟ وماذا سيقول؟ كانت أسئلة من هذا النوع تهاجمني وأنا أنتظر إطلالة الهايج، في وقت ينبؤني فيه حدسي أن «فرانس 24» و «afp» خسرتا «جهادهما المقدس» مهنيا وتريدان استعادته بخطاب حقوقي.
وبالفعل كان جوابه في مستوى حيرتي لما طرح عليه أول سؤال بخصوص رأيه في النفي الذي أوردته وزارة العدل المغربية، « هذا خبر لا أنفيه ولا أؤكده»، قالها الهايج بكل ارتياح دون أن يسائل نفسه عما يفعله إذن بتلك المداخلة التفلزيونية مادام أنه ليس في موقع يؤهله للخوض في صلب الموضوع.
لكن الهايج ورفاقه يختارون دائما خيار المعارضة «ولو طارت معزة»، ويختارون الأورثودكسية الحقوقية ولو كان الآخرون يأكلون الثوم بأفواههم. وذلك بالضبط ما حصل لما طرحت عليه مقدمة النشرة سؤالا يكفي وحده كي تعيدها إدارة القناة لمراجعة تكوينها في القواعد المهنية للصحافة، لقد كان السؤال يبعث على السخرية والقرف في الوقت نفسه وهي تقذف به بسذاجة خبيثة: «ألا تتخوفون من أن يؤدي تعيين الحموشي في منصب المدير العام للأمن الوطني إلى التضييق على الحريات تحت شعار الأمن أسبق من الخبر»!!.
ومرة أخرى كان الهايج منطقيا في طريقه إلى المصيدة، قال الرجل إن جمعيته لا تقيم السياسات بالأشخاص ولكن بمواقف الدولة. هذا جيد. لكن غير الجيد هو أنه سلم الصحفية، أو بالأحرى من يوجهها عن بعد، ما كانت تثوق إليه، فبالنسبة إليه المغرب بلد لايحكمه القانون، ومن يستمع لتدخله في الفقرة ككل يخلص إلى نتيجة أو قناعة واحدة تترسخ لدى المتلقي: «لاشيء يستبعد أن تكون في المغرب ممارسات تعذيب». وهذا بالتمام والكمال ما أردات «فرانس 24» تبليغه كرسالة ليكون بمثابة «وشهد شاهد من أهلها»، حتى تدعم به مصداقية ما يدعيه المومني.
يمكن للمرء أن يتساءل، وهو يسلم طبعا بحق الجمعية في أن تعبر بحرية عما يوجد في المغرب (وهي ليست وحدها على كل حال من يقول إن في البلد ممارسات خارج القانون لكنها ليست بذلك التهويل الهائج)، ألا ينتبه قادة الجمعية للتوقيت الذي يتم جرهم إليه وهم يمشون إليه فرحين بسذاجة؟ ألم ينتبه الهايج إلى أن «فرانس 24» ووكالة الأنباء الفرنسية ومعهما الجمعية الفرنسية لمناهضة التعذيب التابعة للوبي الانفصالي في باريس اختارت توقيت مناقشة البرلمان الفرنسي لاتفاق التعاون القضائي مع المغرب من أجل الضغط في اتجاه عدم التصديق عليه؟ …
كثيرة هي الأسئلة المحيرة، وحبذا لو تساءل الهايج الحديث العهد برئاسة الجمعية مع نفسه: هل كانت رئيسته السابقة خديجة الرياضي ستقبل مثلا أن تكون شاهدة أمام القضاء الفرنسي على وقائع تعذيب لم تشاهدها، فقط لكي تصفي حسابها القديم والجديد مع وزارة الداخلية التي قال القضاء المغربي نفسه إنه ليس لديها الحق في منع أنشطة الجمعية؟.
ومع ذلك، مازلت أومن بأن للجمعية المغربية لحقوق الإنسان دور حقوقي في هذا البلد، ومازالت قناعتي راسخة بأن سوء توظيفها للديمقراطية لايجب الرد عليه بأساليب غير ديمقراطية، لكن الجمعية تحرج الذين يتعاطفون مع حقها في التواجد القانوني والديمقراطي، وتعطي المحافظين في الدولة كل الحجج التي تجعلهم قادرين على الإقناع بأن في هذه الجمعية خصوم للمغرب أدمنوا تشويه سمعته ونصرة خصومه، وليسوا حقوقيين يناضلون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
هل يستقيل؟
صوحافي مغربي يمارس التجاره باسم الصحافة والسياسة، اعتاد تقديم الدروس الأخلاقية للوزراء بدعوتهم إلى تقديم استقالتهم كلما انكشفت تناقضاتهم.
السؤال الآن هو هل سيكون القدوة، ويقدم استقالته من اللعب على الحبال بعدما انفضح أنه صاحب حساب بنكي سري في إسبانيا بينما كان يفرد عناوين عريضة لما قالت «لوموند» قبل بضعة أشهر إن هناك حسابات للملك محمد السادس في سويسرا، الملك أصدر توضيحا يشرح فيه حقيقة الحساب، لكن صديقنا الصوحافي مازال يلتزم الصمت. وهو الذي قالها لنا بالفم المليان «اللي سترنا الله يفضحو». ها قد فضحناه فلماذا يتستر على نفسه. مجرد سؤال لا غير.
يونس دافقير.