تقول الرواية إن رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران خاطب إخوانه في الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية بالقول «لاتعولوا علي لتعويض باها، فهذا أمر صعب». وفي سياق الحديث، كان الرجل يقصد ملء منصب وزير الدولة الذي ظل شاغرا منذ الرحيل المأساوي لمن كان عمليا في منصب نائب رئيس الحكومة، وظل يوصف بـ«الحكيم» لما نقل عنه من حكمة ورجاحة عقل ودماثة خلق.
غير أن عبارة «لاتعولوا علي لتعويض باها»، يمكن أن تحمل معنى آخر لا يجانب الصواب. إذ يتأكد اليوم، أن الراحل عبد الله باها، كان بالفعل والقوة، ضابط إيقاع عبد الإله بن كيران، حتى أنه يمكن لأي مراقب، ولو كان غير دقيق الملاحظة والتتبع، أن يلحظ حجم الفراغ الذي خلفه رحيل «الحكيم».
وإني لأكاد أجزم أن في مسار رئيس الحكومة، يوجد ابن كيرانان وليس ابن كيران واحد، الأول مات مع الراحل عبد الله باها، وقد كان صبورا يحسب المسافات جيدا قبل أن يضع رجله في أية خطوة، ويحرك لسانه كثيرا قبل أن ينطق بالهوى، أما ابن كيران الثاني فقد ولد بعد حادثة القطار المأوساوية، وهو مهضار، خفيف الخطو، سريع الانفعال، وبالنتيجة صار يراكم الزلة تلو الأخرى، ويعالج الزلة بعذر أقبح منها.
يمكن لأي كان أن يخلص إلى هذه النتيجة، بعد إجراء المقارنة: عدد الخرجات الخطابية لعبد الإله بن كيران بعد رحيل باها يفوق بكثير حجم التجمعات التي أطرها قيد حياة «الحكيم». ولذلك ما يبرره حسبما أظن، وذلك من ناحيتين: في الأولى أراد أن يهدم تلك الصورة التي جعلته أسير باها، وكأنه يريد أن يتحدى الذين أسكنوه جلباب الراحل، ويصرخ في وجه الجميع بأنه «قاد بشغالو»، وفي الثانية أراد أن يكون ذلك الزعيم الذي يجتمع حوله كبار الحزب وصغاره، في لحظة هاب فيها «البيجيديون» غياب من كانوا يحتكمون إليه في خلافاتهم، وحتى في طيشهم.
لكن ابن كيران، فشل في المهمتين معا، وتلك نتيجة حتمية لكل نماذج الزعامة الفردية التي تشخصن التنظيم، وتدفع بنظام المؤسسات إلى الهامش، كي تخلق «فوضى خلاقة» تسمح لها بأن تسود وتحكم.
لنترك زلاته في الدشيرة والراشيدية، ولنعد بالذاكرة إلى وقت قريب فقط، بداية شهر أبريل الماضي، وحين رفعت المعارضة مذكرة طلب التحكيم إلى الملك وارتكن إلى خلوته، حاز ابن كيران من التعاطف ما لم ينله أحد غيره، ولأول مرة تجد المعارضة نفسها معزولة وسط الرأي العام. لكن، وما أن بانت له بشائر النصر، حتى عاد من صمته كأي كاسر متلهف لافتراس ضحيته في جلسة المساءلة الشهرية بمجلس النواب، بعدوانية قالها لمخاطبيه في نقاش حول المديونية العمومية: «خطاب السفاهة.. أنت أكبر سفيه»، لقد كانت لحظة الاندحار الكبير التي لن يليها إلا اندحار أكبر في خطابه الناري، وهو يلقي بلهيب أعصابه على مريدي نقابة حزبه في فاتح ماي.
في اللحظتين معا، أحرج الذين تعاطفوا معه لما كان شبه وحيد في محنة الشكاية به إلى الملك، وماكادوا يتلمسون له الأعذار، وهم يرفضون حكاية من دعوه إلى تقديم استقالته وإجراء انتخابات سابقة لأوانها، دفاعا عن قصة استثناء مغربي هي أكبر من طموحه الشخصي ومن حسابات حزبه، حتى زاد الطينة بلة، لما تحول من رئيس دولة إلى داعية أصولي يهاجم المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو يفتي في الشرع تارة ويتحدث لغة الشارع تارة أخرى دفاعا عن القتل باسم الشرف وانتقام الدولة.
هل فقد الرجل صوابه السياسي؟، ذلك أمر محتمل، لكن المؤكد أنه أسقط عنه صفة رجل الدولة. وقد زاد من تأجيج شكوك معارضيه حوله، لما اختار أحمد متزعم الإخوان المسلمين في «ميدان التحرير»، بمصر وفي «الجزيرة القطرية» ليبث له شكواه من معارضيه في الوطن، وليقول له إن الملك هو من يحكم في المغرب مادام أن لرئيس الحكومة صلاحيات محدودة. أجل لقد قالها وما على العالم أجمع، سوى أن ينسى كذبة الدستور الجديد وحكاية الاستثناء المغربي، أما الذين خرجوا لرفض الاستبداد وكان لهم خطاب تاسع مارس ودستور يوليوز 2011 وحكومة يقودها حزب كان قاب قوسين أو أدنى من حله أكثر من مرة، فما عليهم إلا أن يعدوا سلاح العودة لمعالجة هذه «الحالة المغربية»، حتى تلتحق بمعادلة «الربيع العربي والانتقال الديمقراطي» في ليبيا وسوريا واليمن وهلم جرا نحو باقي بلدان «الخريف العربي» التي خربها التنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
حين رحل «الحكيم» الذي كان «نصفه الآخر»، كان على ابن كيران أن يلقى موعده مع الفشل في أن يكون رجل دولة، لأن الحكمة في تدبير المواقف والاختيارات هي ما يعطي المسؤول صفة رجل الدولة، وليس القرارات الصعبة التي قد يتخذها التقنقراط الأقل شعبية. ولما رحل «الحكيم» فشل ابن كيران في أن يضبط أهواء قواعده الحزبية مثلما عجز عن ضبط انفعالاته النفسية، من داخل حزبه خرجت قصة «الكوبل الحكومي»، ومن بيته الحزبي خرجت أخبار الخطوبة ومن كان في وفد الخاطبين، وداخل حزبه اتهم الحبيب الشوباني إخوانا له بتسريب أسراره الحميمية للانقضاض على منصبه في الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان، وداخل حزبه قال الحسن الداودي في حواره مع الزميلة «المساء» الخميس الماضي «لدينا فاسدون في البيجيدي».
لذلك كله ومن أجله، كان لدى ابن كيران كل الحق وهو يقول لأعضاء الأمانة العامة لحزبه «لاتعولوا علي لتعويض باها، فهذا أمر صعب». مثلما له كل الحق لما قال لنا ذات يوم. ويؤكدها لنا باستمرار. بألا نعول عليه في التأويل الديمقراطي لما اعتقدناه دستور ربيعنا المغربي مادام يؤمن حد العقيدة بأن «الذي يحكم المغرب هو جلالة الملك، هذه هي الحقيقة، وهذا هو الدستور». «هاد الشي اللي عطا الله» وما علينا إلا نصدق القصة ونبتلع الموقف ونتجرع المرارة، ونقول «ولا الضالين آمين».
بقلم: يونس دافقير