شاركت أكثر من مرة في الدروس الحسنية الرمضانية، والتي تلقى بحضرة الملك محمد السادس حفظه الله تعالى، وتحت رئاسته الفعلية وبحضور كوكبة من العلماء والمشايخ والدعاة والقراء وأصحاب الفكر والثقافة من المغرب وخارجه طيلة أيام شهر رمضان المبارك ، وقد أنشأ هذه الدروس المنيفة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه بتاريخ 1963م، وهي - في الحقيقة- سنة حميدة انفردت بها المملكة المغربية الشريفة في هذا الشهر الكريم، على باقي دول العالم العربي والإسلامي؛ بحيث أصبح القصر الملكي العامر بالرباط جامعة رمضانية اسلامية عظيمة، يحجها عشرات بل مئات من العلماء والفقهاء من جميع أقطار العالم، يتدارسون من خلالها قضايا وهموم الأمة الإسلامية ومشاكلها المتعددة ، وفق منهجية علمية دقيقة، مع الحكمة والوسطية في الطرح والمعالجة ، بدون تنطع ولاتشدد، فالملك الحسن الثاني رحمه الله أراد بإنشاء هذه الدروس تعزيز الهوية المغربية الثقافية والحضارية وخصوصياته الدينية والتي تتجلى في العقيدة الأشعرية وفقه مالك وطريقة الإمام الجنيد ، الذي عبرعنها ولخصها صاحب متن المرشد المعين إبن عاشر رحمه الله تعالى المتوفى سنه 1040هجرية، إذ يقول رحمه الله:
في عقد الأشعري وفقه مالك *وفي طريقة الجنيد السالك
كما أراد المرحوم كذلك أن يثبت أعمدة نظامه السياسي وتمتين ركائزه المتمثلة في البيعة الإسلامية ومؤسسة إمارة المؤمنين؛ وبسبب هذه الركائز فشلت الكثير من الحركات الدينية والماركسية واليسارية بالمغرب في نقل بعض أفكارها الغريبة عن خصوصياته التاريخية والحضارية، والذي ظل يستنير بنور الإسلام وسنة النبي العدنان "صلى الله عليه وسلم" ، مع مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية وتغيرات الزمان والمكان، الشئ الذي جعل شعب المغرب قاطبة – وعبرتاريخه الطويل- يتشبث بملوك الدولة العلوية الشريفة عن طريق البيعة الإسلامية الشرعية التي تتم بالرضى والشورى والديمقراطية، تحت خيمة الانسجام والتفاهم والحب والتسامح بين الحاكم والمحكوم، علما أن تاريخ الدولة المغربية لم يوجد من عدم أو بالمصادفة، ولم يصنعها الاستعمار، ولم تطرأ في ظرف عابر على إثر انقلابات أو ما شابه ذلك؛ ولكنها مؤسسة لها تاريخ عريق ارتبطت ونضجت بمختلف العوامل الفكرية والمؤثرات الاجتماعية التي صهرتها وهذبتها ؛ مما يعني أنها لم تقم على التسلط ، بل نشأت وترعرعت انطلاقا من رضا الشعب واقتناعه، وهذا ما بينه الملك الحسن الثاني رحمه الله في خطاب 22/02/1987م ومما جاء فيه: " يتساءل الجميع لماذا هذا البلد آمن ومطمئن ولله الحمد ؟ لأن مؤسساته لم تقم على السرقة ، بل قامت على المشروعية منذ مولاي ادريس الأول إلى يومنا هذا فمن الطبيعي إذن أن يكون كل مغربي قد ورث بل قد رضع من ثدي أمه روح المشروعية ، لذا بقينا متشبثين وسنبقى متشبثين بها.." ، هنا سنفهم لماذا لا يقبل أهل المغرب أي نظام آخر لحكم دولتهم سواء تم تغليفه بغطاء ديني أويساري أو شيوعي أو علماني، وسنفهم كذلك لماذا فشلت بعض الأيادي الخفية في تصدير ما يسمى بالربيع العربي إلى الممملكة المغربية ؟.
ولقد أنشأ الملك الحسن الثاني رحمه الله الدروس الحسنية الرمضانية في ظروف حساسة وخطيرة؛ بحيث كانت المملكة فتية وذات عهد بالاستقلال، ناهيك عن موجات الاستلاب الإيديولوجي الغربي، بالإضافة إلى تنامي المد الشيوعي الإلحادي وصعود اليسار في الجامعات المغربية، هنا تدخلت عبقرية الحسن الثاني رحمه الله وتنفيذ مهامه المخولة له من قبل الدستور، والذي صدرت ديباجته بالتأكيد على إسلامية الدولة المغربية؛ بحيث نص في فصله السادس على أن الإسلام هو دين الدولة المغربية الرسمي ، كما أطلق الدستور المغربي لقب أمير المؤمنين على ملك البلاد، وقد كان لهذا اللقب أثر طيب على مسيرة الحسن الثاني رحمه الله في تسيير الشأن الديني، ومن تلك الأثر إنشاء دار الحديث الحسنية، كما أنشأ الدروس الحسنية الرمضانية المنيفة لإعادة الاعتبار لمكانة العلماء والفقهاء ودورهم الفعال في حصانة الأمة والشباب من الانحرافات العقدية والدينية، ومن فتنة التكفير والتنطع ، التي كانت قد بدأت بذورها تزرع هنا وهناك من طرف الجماعات الإسلامية "الجهادية" التكفيرية، ولهذا أصبحت صورة العربي المسلم قاتمة وملامحه الثقافية غير واضحة ، وبدلا من الانطلاق في صنع حركة التاريخ وركوب قطار العصر، واستغلال عقولنا وثرواتنا في التنمية والتجديد والإصلاح والإعمار، غرقت الشعوب العربية والمسلمة في أتون من الصراعات المذهبية الضيقة والمحاكمات الجاهزة ، وفتاوى تيارات الهجرة والتكفير ، بالإضافة إلى تهم التفسيق والتبديع والقائمة تطول ..
فذهبت أغلبية الثروات العربية من أدمغة ومال وخبرات إلى طاحونة الخلافات والصراعات والحروب المذهبية التي لاتسمن ولا تغني من جوع ، هذا الوضع المأساوي للعرب والمسلمين دفع بالحسن الثاني رحمه الله، بإحداث هذا المنبر العلمي الفريد ليساهم في لملمة الصف الإسلامي المترهل، بفعل عوامل الهدم الكثيرة التي أثخنت جسم الأمة بالجراح، وعملت على إذكاء روح الفتنة والشقاق ونصب الحواجز النفسية بين مكونات الجسد الواحد ، فكان منبر الدروس الحسنية لبنة خير وبركة في جسد الأمة الإسلامية عموما، والمغربية على الخصوص، علما أن هذه الدروس فتحت ذراعيها لجميع العلماء والأساتذة والشيوخ يلقون من خلالها ما أجاد الله عليهم من العلم والعرفان ، بغض النظر عن مذاهبهم وتوجهاتهم الفكرية ، سنية كانت ام شيعية أم إباضية أم زيدية ..
بل أعطت لجميع التوجهات الإسلامية الحق في التعبير عن أفكارها وأهدافها بشرط الابتعاد عن فكر الكراهية والتطرف والإرهاب ، كما فتحت هذه الدروس الباب لمشايخ الصوفية الذين تعرضوا في السنوات الأخيرة لموجات عدائية تشويهية من قبل بعض الجماعات الإسلامية المتنطعة، ولقيمة الدروس الحسنية الرمضانية ودورها الفعال في التوجيه والإرشاد وبناء شخصية المسلم المتوازن الإيجابي في محيطه ومؤسسته ووطنه ، يدعى إليها أكابر شخصيات الدولة المغربية، من أمراء ومستشارين وضباط ووزراء ورؤساء الفرق البرلمانية وأعضاء الدواوين الوزارية ورؤساء المجالس العلمية وعمداء الجامعات ، ناهيك عن العديد من الشخصيات العلمية والثقافية وأصحاب الفكر والرأي ، كما يحضرها السلك الدبلوماسي العربي والإسلامي المعتمد في الرباط، وكما جرت العادة في هذه الدروس وقبل أن يصعد المحاضر إلى مكان الدرس تتلى آيات بينات من الذكر الحكيم يلقيها أحد القراء المشهورين من المغرب أومن خارجه ، وعند حضور الملك وبعد أن يقدم تحيته على الضيوف ، يتقدم أحد العلماء لإلقاء درسه أمامه في مدة لا تتراوح بين 50 و40 دقيقة ، وينقل هذا الدرس عبر أمواج الإذاعات الوطنية مباشرة، وقد اعتلا هذا المنبر وعبر تاريخ الدروس الحسنية المباركة ثلة من العلماء والفقهاء ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الإمام أبو الأعلى المودودي وشيخ الأزهر السابق جاد الحق علي جاد الحق ، والمجاهد الشيخ عبد الفتاح أبوغدة ، كما صعده الزعيم الشيعي الإمام موسى الصدر ، والعلامة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي أمين عام رابطة العالم الإسلامي، والشيخ أبي الحسن الندوي والشيخ متولي الشعراوي ، والشيخ سعيد رمضان البوطي ، والشيخ محمد الحبيب بلخوجة، والدكتور عصام البشير، والشهيد العلامة اللبناني صبحي الصالح، والدكتور عبد الصبور شاهين ، والشيخ محمد سيد طنطاوي، والشيخ العلامة عبد الله بن بيه ...إلى جانب علماء من المغرب من مثل المكي الناصري، والعلامة علال الفاسي، والشيخ عبد الله كنون، والفقيه الرحالي الفاروقي، والعلامة الدكتور أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية ، والدكتور عبد الكبير العلوي المدغري وزيرالأوقاف السابق ، والمرحوم الشيخ محمد الأزرق ، والشيخ الغازي الحسيني ، والدكتور لسان الحق ، والدكتور محمد يسف والدكتور أحمد عبادي ، والدكتور فاروق النبهان ..
وقيل في حق هذه الدروس ومن سنها الكثير من قبل أهل العلم المشهود لهم بالتعمق في الفقه الإسلامي ، نذكر منهم فضيلة الشيخ العلامة محمد طه السابونجي مفتي اطرابلس إذ يقول في حقها: " هي سنة حسنة وموسم من مواسم الخير التي تفيض في بركات رمضان الكريم وتشملنا الفيوضات الرحمانية بكريم العطاء والاصطفاء فجزى الله من دعا إليها وخط خطتها..." أما شهادة أحد علماء غينيا فضيلة الشيخ الحاج أحمد فودوفاديكا فيقول : "هذه الدروس أكبر مدرسة على وجه الأرض، تفجر ينابيع العلوم وتتيح للعلماء بمختلف أقطار المعمور أن يلتقوا في صفاء ومودة ويتعارفوا ويتبادلوا الآراء ، ولايغيب عن بال أحد ماينتج عن ذلك من النفع الكبير، لازدهار الإسلام في العالم .." وبالنسبة لسماحة الشيخ عبد الله غوشة قاضي القضاة ورئيس الهيئة العلمية الإسلامية بالقدس الشريف فيقول : " السنة التي نهجها جلالة الملك الحسن الثاني في استماعه للأحاديث الدينية خلال أيام شهر رمضان الفضيل سنة حميدة- هي سنة آبائه وأجداده- تعيد إلينا ذكرى المجالس العلمية التي كانت تعقد في أيام المسلمين الأولى بحضور الخلفاء والأمراء والملوك، "ونختم بتزكية وشهادة قيمة أدلى بها العلامة الشيخ عبد الفتاح أبوغدة مخاطبا فيها المغفورله الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه؛ حيث خاطبه بقوله: " لقد تفردتم في هذا العصر من بين الملوك والرؤساء بهذه السنة الحسنة وهذا الفضل الفريد ، وتفردتم أيضا بأنكم حين تجمعون العلماء تجمعونهم لإعزازهم ورفع مقامهم ولإعلان شأنهم ، تجمعونهم وتجلسون بين أيديهم متواضعين مصغين مجلين معتقدين بقداسة مايقولون من كتاب وسنة وفكر إسلامي صحيح سلفي أوخلفي ، فأنتم بينهم في مقام الشهود لهم بصدق ماينقلون وحق مايقولون.. " .
ومما زاد في عالمية هذه الدروس وشهرتها بين المسلمين في العالم كله هي تلكم المتعلقة بالحضور اللافت لممثلي الأقليات الإسلامية ورموزها وشيوخها من مختلف القارات الخمس ، وهو ما يجعل المناسبة مواتية للاطلاع على أحوالهم وهمومهم والتعرف على حاجياتهم والظروف التي يمارسون فيها شعائرهم، وكيف هي فرص الدعوة في بلدانهم ، الأمر الذي دفع بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية -مشكورة - لترجمة سلسلة الدروس الحسنية إلى اللغات العالمية الرئيسية، كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية.. ونتمنى أن تضيف الوزارة اللغة البرتغالية التي يتكلمها أكثر مايزيد عن 300 مليون في العالم إلى هذه الترجمات، وبدون مجاملة فهذه الدروس الحسنية تذكرنا بأيام زمان، عهد الصحابة الكرام عندما كان يجتمع الحاكم والمحكوم، والخليفة والمأمور على بساط واحد وتحت قبة واحدة ، هدفهم واحد هو عبادة الله تعالى وطاعته ، والتباع سنته ومدارسة قضايا وهموم عباده وعياله، وكلنا عيال الله، وسيد القوم خادمهم، فملوك الدولة العلوية الشريفة وفي طليعتهم أمير المؤمنين الملك محمد السادس حفظه الله، جسد هذه الحقبة المشرقة من عمر الزمن التاريخي للأمة الإسلامية، يصعب تجسيدها اليوم من قبل حكام العرب والمسلمين، فجلالته ومنذ توليه مقاليد الحكم كان حريصا على الدوام في مخاطبة شعبه والاستماع لملاحظاته، وذلك من خلال تواصله معهم في الشوارع والأزقة وحتى في البوادي والقرى النائية، يستمع إلى الأرملة والمسكين ويجود بعطائه على المحتاجين، ويرد كيد الكائدين والمعتدين ، ومن أجل هذا أنشأ ديوان المظالم ، ترفع إليه شكاوى المواطنين وخصوصا لمن أحس بحيف أوظلم من المسؤولين ، هذه المواقف الإنسانية لجلالته، وحلمه وعفوه وتواضعه مع شعبه وعطاءاته الكبيرة تخطت حدود الوطن وامتدت إلى كل أصقاع الأرض، لترسخ إسم جلالته كواحد من أبرز رجالات الخير والسلم والسلام في العالم ، كما ارتسمت ملامحه وطلعته البهية على مدن وأقاليم المملكة في قلب وعقل كل محتاج إلى يد حانية، إن كان من رعاية طبية، أو مساعدة مادية أومنحة دراسية..
فأيادي جلالته البيضاء الطاهرة النقية تركت بصماتها على كل مرفق من مرافق وطننا الكبير، من سبتة المحتلة مرورا بتطوان وطنجة، وصولا إلى الكويرة، فخيرا مافعل الملك محمد السادس أعزه الله، عندما تشبث بسنة الدروس الحسنية الرمضانية وعمل جاهدا على ضمان استمراريتها وتطويرها والإضافة إليها حسب ماتقتضيه مجريات العصر، ولعل ما أضافه جلالته لهذ المجالس الرمضانية هو انفتاحه على رموز الجاليات الإسلامية المغربية في الخارج ؛ حيث أصبح يدعى لها الكثير من رؤساء الجمعيات والمراكز الإسلامية والثقافية، بالإضافة إلى مشايخ ودعاة وأساتذة وخصوصا أصحاب الوجود الفعلي والفاعل في ساحة دول الاستقبال، ويبقى أهم تحول شهدته الدروس الحسنية في عهد أمير المؤمنين محمد السادس، هو ذاك المتمثل في إشراك المرأة المغربية العالمة في هذه المجالس، بجانب شقيقها الرجل، وهي في الحقيقة سابقة جديدة من نوعها في عمر الدروس الحسنية، ، وتبقى فريدة من نوعها حتى على مستوى التاريخ الإسلامي، الذي عرف في بعض محطاته إلغاءا كليا لعنصر المرأة ، وهو عصر عرف بعصر الانحطاط ؛فها هو جلالته يعيد للمرأة المسلمة كرامتها وعزتها والعودة بها إلى مكانتها الطبيعية حتى تتحمل مسؤوليتها في بناء الإنسان والأوطان، جنبا إلى جنب مع شقيقها الرجل، ومن المستحيل أن يتقدم المجتمع ونصفه مشلول كما يقال؛ لهذا جلالته وبعقله الثاقب تنبه إلى هذا الخلل الذي حصل في مسيرة تاريخ المسلمين وإجحافهم في حق عنصر مهم في بناء المجتمعات البشرية، أﻻ وهو عنصر المرأة؛ بحيث أول إمرأة قدمها جلالته لتصعد كرسي الدروس الحسنية الرمضانية الدكتورة رجاء الناجي المكاوي، وهي المرأة المغربية المسلمة الأولى في التاريخ اﻹسلامي المعاصر التي تلقي درسا دينيا بحضرة ملك، وثلة من العلماء والشيوخ والوزراء والضباط ..وهكذا توالت العالمات المغربيات ومن كل سنة تشاركن في الدروس الحسنية الرمضانية بالمغرب .
الصادق أحمد العثماني
- سفير الهيئة المغربية للوحدة الوطنية في العالم الإسلامي