يونس دافقير.
يحتاج الكاتب ، خصوصا في المادة السياسية، لأن يكون صاحب قناعات مبدئية ووضوح في الرؤية، إن ذلك يشبه الكيمياء الضرورية لانتظام المواقف وانسجامها، لأنه وفي الحالة المعاكسة، التي تكون فيها الكتابة خاضعة للأمزجة الظرفية، وانفعالات ردود الأفعال التي تختار المواقف لحظة بلحظة، وحالة بحالة، يسقط الكاتب في التناقضات، ويصبح فريسة سهلة لمكر قصور الذاكرة، حتى أنه يستطيع أن يكتب اليوم نقيض ما ذهب إليه بالأمس دون أدنى إحساس بالحرج.
أسرتني هذه الملاحظة وأنا أتتبع كثيرا من الكتابات والتعليقات السياسية منذ سنوات ليست بالقليلة، ولست متعجرفا إن قلت إن ذاك يجعلني أستصغر نماذج هذا المنتوج المتناقض، خصوصا، لما يكون موضوعه قضايا حساسة، لايمكن أن تخضع في مقارباتها لما تحتاجه السوق من بضاعة، أو لما يتم نسجه من تحالفات جديدة للخروج من مآزق ووضعيات غير مريحة، بل إنه لمن القبح بمكان، أن تصبح قضايا كبرى مجرد أسهم للتداول في بورصة العلاقات المتغيرة ككثبان الرمل.
الأمثلة على ما أدعيه كثيرة، ولنأخذ كمثال على ذلك الموقف المغربي من المتغيرات الإقليمية في الشرق الأوسط، بالأمس لما اختارت الرباط الانكفاء على مشاكلها الداخلية تحت شعار «تازة أقرب من غزة»، جلد كثيرون هذه العبارة التي تختزل موقفا جعل المغرب يفقد دوره المؤثر في الساحة العربية، وبالنتيجة صار هامشيا في الحسابات الدولية الكبرى، وفي تحصيل ذلك كله، لم تعد لديه أوراق جيواستراتيجية يفاوض بها في الدفاع عن قضاياه القومية.
كان التحليل صائبا، واستنتاجاته مدعومة بوقائع مجربة، وكم كان أصحاب هذا النقد فخورين بصدقية ما نبهوا إليه، فاستفاضوا في متابعة كيف «همشت» الولايات المتحدة الأمريكية المغرب في مشاوراتها الدولية لبدء أولى الضربات الجوية ضد تنظيم الدولة في سوريا والعراق. وتحسروا على تلك الأيام، التي كان فيها الحسن الثاني نقطة عبور الأمريكيين نحو قضايا الشرق الأوسط، وجسر الإسرائيليين والفلسطينيين إلى مفاوضات السلام…
لكن السلاح سرعان ما سيرتد إلى الخلف، وسينقلب هؤلاء المتوجون على نصرهم خاسرين، حدث ذلك في اللحظة التي أسقط فيها المغرب شعار «تازة أقرب من غزة»، وصار أمن الخليج جزء من الأمن القومي المغربي، وأصبح الدفاع المشترك مجرد تحصيل حاصل في علاقة الشراكة الاستراتيجية التي غدت تجمع المغرب بدول التعاون الخليجي. لقد انقلبوا على تحليلاتهم في اللحظة التي أصبح فيها إظهار القوة ضروريا لما يتم إبداؤه من صرامة ديبلوماسية ومن نزعة نقدية للمعادلات الدولية، إنهم وبكل بساطة يدعون إلى استعادة شعار «تازة أقرب من غزة» في الوقت الذي أرادت بلادهم أن ترفع رأسها كفاعل إقليمي ودولي، وأن تمارس اللعبة الدولية كأي محترف يعرف أن جرأة المغامرة تتم بين حدي معادلات الربح والخسارة.
حين أعلن المغرب مشاركته في التحالف العربي السني ضد النزوع الهيمني الإيراني فتشوا في نصوص الدستور عما يسحب بساط الشرعية والمشروعية من تدخله العسكري الجوي في اليمن، وحين لم تسعفهم الحيلة تحولوا من علوم الدستور إلى خبراء في الاستراتيجيات الحربية ومحترفين في العلاقات الدولية، فبالنسبة إليهم على المغرب أن يخاف حروب الخليج، وأن يبحث عن مصالحه، حجتهم في ذلك أن أمريكا لم تتدخل وما علينا بدورنا سوى عدم التدخل. وهاهي مفارقة أخرى، بالأمس تتهم ديبلوماسية الرباط بأنها تابعة لأمريكا واليوم تنتقد لأنها خرجت عن الحسابات الأمريكية !!
أغلب الأوراق الرابحة في الديبلوماسية الدولية توجد الآن في منطقة الخليج، ومن تخلف عن الحضور في هذه الفترة التي يعاد فيها رسم الخارطة الشرق أوسطية، لن يكون لديه مستقبلا ما يقايض به في بورصة الحسابات الإقليمية، وحتى في ليبيا ومالي، وفي النيجر وإفريقيا الوسطى، لابد أن تكون حاضرا بقوة حتى لاتوضع على هامش القرار الإفريقي. ومثلما لايخاف المغرب الجزائر، فإنه لايخاف إيران أيضا، وحين يتدخل في اليمن والبحرين، ويدعم الإمارات والسعودية … فإنه يتصدى للمد الشيعي في أبوابه الخليجية قبل أن يقتلع عليه جدران بيته هنا في الغرب الإفريقي. و لنقلها بوضوح أكبر، إن حروب الخليج ميثاق بيننا وبين من يرفضون عودة الإمبراطورية الفارسية، بل وحتى العثمانية.
لما كان محمد السادس يزور البلدان الإفريقية في السنوات الأولى لاعتلائه العرش، اعتقد كثيرون أنها مجرد جولات سياحية لرئيس دولة يريد كسر روتين شعار «تازة أقرب من غزة»، والأكثر تقدما في الرؤية أغرقوا الزيارات في قراءات فولكلورية تربط الملكية بالحضور الديني للزوايا المغربية في السينغال والنيجر والغابون وغينيا …، لكن الجميع الآن يصفق لهذا المشروع الكبير الذي حول المغرب إلى مدخل للعبور الأمريكي والأوروبي نحو السوق الإفريقية، وجعل إمارة المؤمنين شريكا ونموذجا في الحرب على الإيديولوجيات المتطرفة في منطقة الساحل والصحراء…
والأمر نفسه سيحدث في القادم من السنوات، من يخافون اليوم الاستثمار في الأمن الخليجي، ويدعون إلى الانغلاق على الذات باسم مخاطر الحرب، سينسون كلامهم اليوم وسيعودون للسقوط في مكر قصور الذاكرة ويكتبوا في الغد بالتمجيد نقيض ما ينظرون له اليوم من نكوص، ومهما يكن من أمر فالحروب شيء سيء لكنها ليست دائما من دون إيجابيات، و ليس أقلها، كما يقول فرويد في إحدى مناقشاته حول سبل تفادي البشرية للحروب، أنها «تسهم في تحويل العنف إلى وضع قانوني عن طريق إقامة وحدات أكبر، وجعل استخدام العنف داخلها مستحيلاً، حيث أن نظاماً جديداً من القوانين يؤدي في داخلها إلى حل الصراعات». وباختصار آخر من المقولات المأثورة للكبير إنشتاين فإن «أثمن ما في العالم هو الحدس أو الفكرة اللامعة». كما أن «الروح العظيمة تواجه دائما معارضة من متوسطي الذكاء».