بقدر ما كانت جدية وصلابة المغرب عاملا حاسما في التعامل مع قضيتنا الوطنية الأولى، بقدر ما كانت نزاهة وموضوعية تقرير الأمم المتحدة عاملا حاسما بدوره في الرؤية المتبصرة والرشيدة لمجلس الأمن في وضع النقط على الحروف بشكل دقيق: عدم المساس بطبيعة عمل بعثة "المينورسو" الأممية، مع تمديد مهمتها سنة أخرى؛ اعتبار المقترح المغربي الخاص بالحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية الحل الأمثل للنزاع المفتعل؛ الإشادة بالإنجاز المغربي على صعيد حقوق الإنسان؛ مطالبة النظام الجزائري بفتح "غيتو" تندوف من أجل إحصاء المقيمين فيه من المحتجزين، ثم إشراك الدول المغاربية في العمل المشترك من أجل استتباب الأمن والاستقرار في منطقة تحدق بها الأخطار من كل جانب. لَئِن كان هذا الموقف الأممي بمثابة الصفعة المدوية لخصوم المغرب الذين خسروا الأموال الطائلة من أجل شراء الذمم، وخسروا معها ما تبقَّى من ماء وجوههم للاحتفال بـ"عام الحسم"، فإن الموقف الأوربي جاء لِيُضْفِي على تلك الصفعة صفعة أخرى مُوجعة لنفس الخصوم من خلال تصويته على إعادة تقييم واقعي لبرنامج المساعدات الموجهة للمحتجزين الذين يوجدون في منزلة بين المنزلتين: لاَهُمْ لاجئون كباقي اللاجئين، ولا هم سكّان كباقي السكان المعترف بوضعهم القانوني. وجاء هذا الموقف، في الواقع، لِيُزَكِّي ما ذهب إليه بحث المكتب الأوربي لمحاربة الغش حول عمليات نهب واختلاس كبيرة لتلك المساعدات التي ثبت أنها تُوَجَّهُ إلى جهات أخرى غير وِجْهَتِها الحقيقية، مع اتّهَام مسؤولين جزائريين وانفصاليين بالوقوف وراء تحويل المساعدات الغذائية والاتِّجار فيها. ماذا تَبَقَّى لهؤلاء الخصوم الذين ظلوا يلهثون وراء السراب طيلة أربعة عقود من أجل التضييق، بل خنق المغرب، ليسهل بعد ذلك على الحالمين بالتوسع والهيمنة وتنزيل توصيات أجندتهم وبسط نفوذهم. تبخرت الأحلام في عامهم هذا الذي كانوا يريدونه حاسما فجاء فاصلا بين الحق والباطل. ولأن بصائرهم عميت، فإنهم لم ينتبهوا إلى أن عام الحسم الحقيقي هو الذي وَقَّعَ عليه المغفور له الملك الحسن الثاني سنة 1975 بتنظيم أكبر وأعظم مسيرة سلمية في القرن العشرين يقوم بها بلد لاسترجاع أقاليمه المغتصبة من قبضة الاستعمار، وهو ما أَفْقَدَ الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، وساعده الأيمن، الرئيس الحالي بوتفليقة، الصواب وجعلهما يقدمان على أكبر جرم في التاريخ، يتمثل في طرد 75 ألف مواطن مغربي مقيم في الجزائر، كرد فعل، بل انتقاما من المغرب وشعب المغرب، بسبب المسيرة. أما عام الحسم الثاني، فقد بدأ منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش سنة 1999 من خلال مسيرات النماء والبناء التي عرفتها ـ وتعرفها ـ الأقاليم الصحراوية، والتي شملت مختلف المجالات. وقد وقف الذين زاروا هذه الأقاليم على مدى التغيير الذي حَوَّلَ منطقة بكاملها وجعلها تلتحق بِرَكْبِ باقي أقاليم وجهات المملكة، بل إن الأقاليم الجنوبية فاقت بعض الأقاليم الأخرى من حيث حجم الاستثمارات، ونوعية المنجزات، وطبيعة المنشآت.. مع التأكيد على أن سنوات حسم أخرى، حافلة بمزيد من الإنجازات الكبرى، في الطريق. إن الانتصار الذي سجله المغرب هو في واقع الأمر تتويج لمسلسل طويل من العمل الدؤوب منذ أن ناصبنا النظام الجزائري العداء في قضيتنا الوطنية الأولى؛ وهو في كلمة واحدة إظهارٌ للحق وإزهاقٌ للباطل، بالرغم من جميع الدسائس والمكائد والخبث التي تفنّنت أجهزة هذا النظام في إخراجها من دون مراعاة ما يربط البلدين والشعبين من وشائج وروابط، وفي تنكُّرٍ تام وصارخ لأبسط قواعد الجوار، وذلك بالسماح لنفسه بالتدخل في شؤون غيره. ومع ذلك، فإن يد المغرب ظلت دائما ممدودة. لكن الخيال المريض لِذَهَاقِنَةِ ذلك النظام ذهب بهم إلى مُدَاعبَةَ حلم تحقيق جزائر كبرى لا توجد سوى في هذا الخيال الذي يقوم ويسير على الوهم والسراب الذي سَرَّبَه إلى إحدى صنائعه العجيبة التي ابتدعها ابتداعا، وَنَصَّبَ عليها رئيسا، وأخرج لها حكومة، واختلق لها وزراء.. والكل يعيش في دوامة الوهم التي أقعدت الكثير منهم، وعَطَّلَت حواسهم عن التفكير الصائب. وماذا بعد الوهم غير الوهم.