أنا منذ خمسين عاما
أراقب حال العرب
و هم يرعدون و لا يمطرون
و هم يعلكون جلود البلاغة علكا
و لا يهضمون ... نزار قباني : 1994
نجاح إيراني باهر ... لكن !
بداية نود أن نهنئ صادقين المفاوض الإيراني على الإنجاز التاريخي الذي آل إليه المجتمعون في لوزان السويسرية ، المتمثل في " اتفاق إطار " بين إيران و مجموعة خمسة زائد واحد ، لتجاوز إشكال ملف طهران النووي ، بعد " أيام " من المفاوضات الماراطونية الشاقة .
صحيح لقد قدمت الأطراف الإيرانية تنازلات دراماتيكية أقلها خفض مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة مائوية كبيرة ، و " احترام مطلق " لبنود الاتفاق كي ترفع عنها العقوبات سيئة الذكر ، لكن مرحلة الحصاد المثمر آتية " لا ريب فيها ". و إذا اقتصرنا على تأمل العناوين العريضة لهذا الاتفاق "الأولي " ، و الذي قد لا يختلف كثيرا عن الاتفاق النهائي المقبل ، نستنتج دون عناء ، أن إيران ( و بفضل دهائها السياسي المتأصل ، و إيمانها بقاعدة الاعتماد على الذات القومية الموحدة ، و مقدرتها على الانفتاح الإيجابي على أقطاب دولية وازنة من قبيل روسيا و الصين .. ) تتجه رأسا نحو أفق حضاري أرحب ! فلئن تمكن الإيرانيون من مواجهة عقود من الحصار بالغ الخطورة بإيمان بالنصر و تقوية البناء الاقتصادي و الصناعة العسكرية على وجه الخصوص ، فإنهم عازمون على المضي قدما في " جني ثمار " اجتهادهم الاستثنائي و بسرعة رقمية ، في ظل الاستقرار و الانفتاح على الغرب و الشرق ! بيد أن مقبل الزمن الإيراني لا يحمل فقط عناصر القوة و النجاح غير المحدودين ، و إنما يضم عناصر الضعف و الانهيار .. أقلها اللعب السياسي غير مضمون العواقب مع العالم العربي تحديدا ، عبر تصدير الثورة و اختلاق النعرات الطائفية ، و الحدب على الرعاية اللوجستيكية و المادية للأقليات الشيعية في عديد من الدول العربية : العراق و سوريا و لبنان و البحرين ، و في القائمة اليمن و الكويت و السعودية ! بهدف الهيمنة السياسية و إقامة الإمبراطورية الفارسية بحصر المعنى !
تألق العرب في ... إضاعة الفرص :
أما العرب فحديث ذو شجون ! إنهم عباقرة في إضاعة الفرص ، و الاستكانة للنوم في الكسل و الاستهانة بالذات و الاستعداد للاحتراب الأهلي و الاقتتال الداخلي .. في الواقع ، و بعيدا عن أي سياسة لجلد الذات و الافتخار المجاني بثوابت الأمة العربية ، يمكن القول دون خوف من السقوط في المبالغة أو المزايدة العاطفية الفجة : إن العرب أمام امتحان مفصلي لم يشهدوا مثله على الأقل في تاريخهم الحديث ، فإما أن يجتازوه بنجاح و يعيدوا قصة النهوض الحضاري للمشرق ، و لهم من الإمكانيات ما يجعلهم في مصاف الدول المحترمة ، على رأس هذه الإمكانيات النوعية ؛ و حدة الأرض و اللغة و التاريخ و الدين ، فضلا عن الموقع الاستراتيجي و الموارد الطبيعية المحركة للاقتصاد العالمي .. و إما أن يفشلوا في هذا الاختبار غير المسبوق ، و يعلنوا انسحابهم بهدوء من مسرح الدول الفاعلة ، و يقدموا مفاتيح بلدانهم لمن استقوى عليهم ، على غرار ما فعل الملك أبو عبد الله الصغير الذي اضطر لتسليم مفاتيح مدينة غرناطة الأندلسية للملكين الكاثوليكيين فيرنا ندو و إيزابيلا في 2 يناير 1492 !
و أمام واقع التسليم برفع العقوبات على طهران فإن " وكلاء " إيران سوف ينتقلون إلى السرعة القصوى للعبث الطائفي و التمذهب الديني ، الذي ينذر بأوخم العواقب في الساحة العربية . لذلك نتفهم موقف التحالف العربي بزعامة السعودية لإعلان " عاصفة الحزم " ، ومواجهة الانقلابيين و رموز الثورة المضادة في اليمن ، لقد وضع الحوثيون المدعومون إيرانيا و عصابة الرئيس المخلوع عبد الله صالح دول " الاعتدال و الواقعية " ، أمام وجوب التصدي لهؤلاء المقامرين بالوطن رغم ما قد تسفر عنه هذه الحرب المفروضة من نتائج مدمرة و مآسي مروعة . و الواقع أن تيار" أنصار الله " مكون أساسي من مكونات المشهد السياسي اليمني ، و كان عليه أن يتعامل إيجابيا مع المبادرات العربية و المطالبة بالحوار السلمي و احترام المؤسسات الشرعية ، إلا أنه مال إلى الانقلاب ميلا ، و نزع إلى الاحتراب نزوعا ، تنفيذا للمخطط الإيراني الهادف إلى تقويض الربيع العربي و إجهاضه ..
إجراءات عربية لتفادي السقوط ... العظيم !
فهل من نهاية لليل العربي الطويل الطويل !؟ نعم ... لكن عبر إجراءات و مواقف محرقية و مؤلمة لأصحاب " الفخامة و السمو و السعادة " ؛ الزعماء العرب المنتمين لمحور " الاعتدال و التعقل و الواقعية " أو لمحور " الصمود و الثورة و التصدي " . و لعل أول خطوة يجب نهجها من قبل هؤلاء ، هنا و الآن ، هو إسناد مهمة الحكم و تدبير شؤون البلاد العربية إلى الشعب و لا شيء غير الشعب ، استنادا إلى تجارب الدول الحرة ، و الالتزام الفعلي بالقرارات و القوانين الدولية و الاحتكام إلى مبدأ احترام حقوق الإنسان المتعارف عليها كونيا ، وذلك عبر خلق فضاء سياسي سليم يضمن التعددية السياسية بالمعنى الأشمل ، و حرية الرأي و التعبير و المعتقد ، في إطار وثيقة دستورية حديثة و ملزمة ، تشارك في صياغتها كل أطياف المجتمع دون أي إقصاء أو تهميش أو تهديد .. كي تفصح الأرض العربية عن هيئات و منظمات و جمعيات سياسية و أهلية مستقلة ، من شأنها أن تساهم في تجسيد مشهد سياسي صادق ، يؤمن بالتداول السلمي عن السلطة من خلال استحقاقات سياسية دورية ، و يدافع عن المصالح العليا للأمة و ليس عن العائلات و الأسر الحاكمة ! !
ثاني إجراء بالغ الألم للمسؤولين العرب هو التوقف الحازم عن اعتبار الشعوب مجرد رعايا عاجزين عن تقرير مصيرهم بأيديهم ، و الإعراض عن مسلكيات القمع و الاستبداد و اتباع سياسة الأرض المحروقة في حق المعارضة الوطنية العلمانية و الإسلامية ، و إعادة النظر في شيطنة تيار الإسلام الديمقراطي المؤمن بالمؤسسات الرسمية للمجتمع ، خاصة و نحن نواجه نهوضا إيرانيا يكن العداء لماضي و حاضر و مستقبل الأمة العربية ، و غطرسة إسرائيلية دائمة تتوغل في أرض العرب و دمائهم ..
ثالث إجراء عربي محوري و عاجل ، هو وقوف جميع الدول العربية في وجه الثورات المضادة لإرادة الشعوب ، و تكسير أي محاولة انقلاب على الشرعية الدستورية بدعوى صعود تيار علماني أو إسلامي غير مرغوب فيه إقليميا و دوليا و" وطنيا " ، و في هذا المضار فإننا نعبر عن مساندتنا غير المشروطة للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز ، و هو يقود إلى جانب دول عربية أخرى " عاصفة الحزم " لإعادة الشرعية لليمن الجريح ، بيد أن هذه " العاصفة الحازمة " لن ينظر إليها من قبل المراقبين المحايدين بعين الرضى ، إلا إذا شملت كل دول الربيع العربي التي " نجحت " فيها الثورات المضادة ، و على رأسها " أم الدنيا " التي شهدت انقلابا عسكريا قل نظيره في العالم ، على الرئيس المنتخب و الدستور و المؤسسات التي جاءت نتيجة استحقاقات حرة و نزيهة لأول مرة في تاريخ أرض الكنانة ، و ما من شك في أن أي انقلاب إرهاب ، تماما كما هو الشأن بالنسبة للجماعات التكفيرية الجاهلية ، فنحن نرفض قتل الأفراد تحت أي ذريعة مثلما نرفض قتل الأمم .. و عليه فإننا ننتظر من الملك السعودي أن يطلب و" بحزم غير عاصف " من الجنرال عبد الفتاح السيسي على الأقل إلغاء الأحكام الدراماتيكية على المنتسبين لتيار الإخوان المسلمين ، و الإفراج الفوري عن الرئيس الشرعي محمد مرسي و مساعديه ، لتهيئة الأجواء الملائمة لإبرام مصالحة مصرية تاريخية من اجل غد " خير و أبقى " !
رابع إجراء عربي حاسم هو الاعتكاف العقلاني و العلمي على إعداد ملف نووي سلمي ، و إعادة بناء جيوش عربية حديثة و مدججة بأحدث الأسلحة و أرقى التكوين و الجاهزية ، لحماية أمن الأمة من أي اعتداء أجنبي ، و الإعراض عن أي تدخل في الحياة المدنية و السياسية ، و يحسن التذكير هنا بمعاهدة الدفاع العربي المشترك و التعاون الاقتصادي ، التي يعود تاريخها إلى سنة 1950 ، فما دافع العرب مشتركين عن بعضهم البعض ، و لا تعاونوا اقتصاديا في أي محطة من محطات تاريخهم القديم و الجديد و هل هناك فرق !؟ فالأجدر بهم أن يستحضروا قيم التضامن و الأخوة ، و الانكباب على بلورة خطة مارشال عربية للنهوض بالاقتصاد العربي ، عوض هدر المال العام فيما لا " يشبع و لا يغني من جوع " !
أفعال لا ... أقوال :
آخر إجراء " عاصف و حازم " و ليس أخيرا ، لإحداث تغيير جذري و فعال في المنطقة العربية ، هو ترجمة حرفية لأي بيان لأية قمة عربية على أرض الواقع ، و تفعيله سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا و اجتماعيا .. من أجل خدمة المواطن العربي ، و تحقيق أحلامه في الحرية و العدالة و الكرامة و الأمن .. دونما حاجة إلى عقد ٌقمم جديدة يعلم القاصي و الداني أن توصياتها ستظل حبرا على ورق ! فهل العرب واعون بالمخاطر المحدقة براهن و مستقبل أوطانهم ؟ عسى أن تعود الروح إليهم في هذه الفترة التاريخية الفارقة ، و إذا كان قد قيل بحق : إن العرب يقولون ما لا يفعلون ، فليثبتوا العكس و لو مرة في مسيرة " سنوات ضياعهم " . « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون » سورة الصف ، الآية : 3
الصادق بنعلال – كاتب من المغرب