كان تقدير وسطاء الجزائر لحجم تشدد الجيل الجديد الكامن في قلب الحركة الانفصالية بشمال مالي تقديرا منقوصا.. فكانت زلة تركت عملية السلام في حالة يرثى لها بعد أن رفض الانفصاليون التوقيع على اتفاق مقترح.
وقال مشاركون في مساعي إقرار السلام إن الوسطاء الجزائريين كانوا شبه متيقنين من إمكانية التوصل لاتفاق حتى أنهم لم ينظموا إلا بضعة لقاءات مباشرة بين مملثي الحكومة وممثلي الانفصاليين الذين يغلب عليهم الطوارق.. وهو ما لم يكن كافيا للتغلب على انعدام ثقة متبادل تراكم على مدى أربع حركات تمرد بالصحراء الواقعة شمالا منذ الاستقلال عام 1960.
ويريد الدبلوماسيون الغربيون والإقليميون اتفاقا يكسر دائرة الانتفاضات ويتيح لقوات حفظ السلام الأجنبية والقوات المالية التفرغ للتعامل مع المتشددين الإسلاميين وتجار المخدرات الذين يتحركون بحرية عبر مساحات الصحراء الكبرى الشاسعة غير الخاضعة لضوابط.
وكان المسلحون المرتبطون بتنظيم القاعدة في شمال مالي قد قاتلوا إلى جانب الانفصاليين خلال انتفاضتهم الأخيرة التي بدأت قبل ثلاث سنوات في بلدة كيدال قبل أن يمسك المتشددون الأفضل تسليحا بزمام التمرد.
وعندما زحف الإسلاميون على منطقة باماكو تدخلت فرنسا عام 2013 وكسرت قبضتهم على الشمال، لكن ظلت هناك بؤر للمقاتلين متناثرة في الصحراء والحصون الجبلية.
ورغم توقيع حكومة مالي والميليشيا المتحالفة معها بالأحرف الأولى على اتفاق مقترح هذا الشهر رفض الانفصاليون التوقيع قائلين إن المقترحات لم تقطع شوطا كافيا باتجاه الاعتراف بدولة أزواد التي يسعون لإقامتها بالصحراء.
ومع رفض الوسطاء وحكومة مالي مطالب المتمردين بإجراء المزيد من المحادثات، يبدو أن العملية تعثرت.
قال رينالدو ديبانيي مدير قسم غرب أفريقيا بمجموعة الأزمات الدولية "ظن الجزائريون أنهم يملكون القوة الكافية لدفع الاتفاق لكنهم لم يقدروا جيدا حجم التشدد في كيدال".
والاتفاق المقترح يعترف بأزواد ككيان ثقافي ويمنحها مزيدا من السلطات بما في ذلك تحويل 30 في المئة من دخل الحكومة للسلطات المحلية. لكن المتمردين يصرون على أن تكون أزواد كيانا سياسيا وقانونيا منفصلا. وتظهر وثيقة أن المطالب التي تسلمها الوسطاء هذا الشهر تشمل مناصب دبلوماسية وتحكما في تشكيل قوات الأمن بالمنطقة.
كما يطالب المتمردون بأن تحول الدولة 40 في المئة من حجم الموازنة العامة لصندوق خاص بتطوير الشمال وهو أمر يستحيل تنفيذه على حكومة الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا التي تواجه بالفعل انتقادات شديدة في الجنوب على اعتبار أنها قدمت تنازلات كثيرة.
وقال وزير الخارجية عبدالله ديوب "المناطق الشمالية الثلاث لا تشكل بأي حال كيانا اسمه أزواد" مؤكدا أن الحكومة لن تقدم أي تعهدات تخل بوحدة مالي وسلامة أراضيها.
عائدون من ليبيا بالسلاح
كما حدث في حركات تمرد سابقة.. تأثرت انتفاضة عام 2012 بمقاتلين عائدين من ليبيا التي كانت ملاذا لكثير من طوارق مالي إلى أن سقط معمر القذافي عام 2011. وازداد الصراع تأججا مع استخدام أسلحة نهبت من ترسانات القذافي.
كان المتمردون وحلفاؤهم الإسلاميون قد استولوا على الأقاليم الشمالية الثلاثة في البلاد عقب الفوضى التي شاعت بعد انقلاب في باماكو في مارس/آذار 2012 وأدت إلى انهيار جيش مالي.
وقال ديبانيي إن الخط المتشدد الذي ينتهجه الإسلاميون الساعون لفرض الشريعة انتقل إلى متمردي الطوارق الذين يقاتلون لنيل وطن مستقل.
وأضاف "جيل المقاتلين الجديد القادم من ليبيا أكثر تشددا من أولئك الذين عادوا في التسعينات" مشيرا إلى إحباطهم من فشل حركات التمرد المتعاقبة منذ عام 1963 في اقتناص حكم ذاتي. وقال "هم يرون أن القومية لم تجلب لهم شيئا".
ونفى المقاتلون الانفصاليون مرارا أي صلة لهم بالإسلاميين بل إنهم تقاتلوا في بعض الفترات. لكن الخبراء يقولون إن تحالفات مصالح تحدث أحيانا ومنها مرات لتسهيل تهريب المخدرات وغيرها.
وبعد أن وافقت حكومة مالي على الاتفاق المقترح طلب الانفصاليون مهلة للتشاور مع أنصارهم في كيدال. وجرت مناقشات بين الانفصاليين وشيوخ القبائل والقيادات الشبابية في وقت شهد احتجاجات من جانب الأهالي الذين بعثوا برسالة واضحة لزعمائهم بعدم التوقيع.
وقال مسؤول يشارك في المحادثات "يجد الزعماء كبار السن صعوبة في الوقوف على أفكار الشبان."
وقالت ماجا بوكون محللة الشؤون الأفريقية بشركة فيرسيك مابلكروفت لاستشارات المخاطر إن حملة فاشلة قامت بها الحكومة لاستعادة كيدال في مايو/أيار 2014 أدت إلى تقسيم فعلي للمدينة وزادت جرأة الانفصاليين الذين أخرجوا القوات النظامية من الشمال.
وفي غياب سلطة الحكومة يجبي الانفصاليون رسوما من الجهات التي تسير حافلات نقل الركاب كما أنهم وزعوا بطاقات هوية خاصة بسكان أزواد ورفعوا علم أزواد على المباني العامة. وكانت التنازلات المقترحة في الاتفاق بمثابة خطوة للوراء في عيون كثيرين.
قال أحد المتمردين في كيدال ويدعى أبوبكرين أج زامبو (29 عاما) "توقيع هذه الوثيقة يسطر خطوط النهاية لشعبي ويضع علامات استفهام أمام صراع عمره 50 عاما".
انعدام الحوار
للجزائر نصيب من استقرار شمال مالي حيث تشاركه حدودا صحراوية طويلة ونظرا لسكانها الطوارق. كما أن وساطتها في صراعات سابقة أكسبتها فهما لآليات العملية المعقدة.
لكن بعض المشاركين شكوا من أن الحديث كان مركزا بقوة حول الوسطاء الجزائريين بحيث لم تتح لممثلي الحكومة والانفصاليين فرصة التفاوض المباشر إلا مرات معدودات.
وقال محمد عثمان المسؤول بتحالف الانفصاليين "95 في المئة من الاجتماعات كانت مع الوسطاء وحوالي خمسة في المئة مع الحكومة".
وعلى مدى خمس جولات من المحادثات لم يلتق الجانبان وجها لوجه أكثر من ست مرات كان آخرها في نوفمبر/تشرين الثاني. وقال مشاركون في الجولة الأخيرة التي عقدت في فبراير شباط إن الجانبين لم يلتقيا خلالها على الإطلاق.
وقال ديبانيي إن انعدام الحوار المباشر ربما كان أحد عوامل التعثر مؤكدا "تحركت اتفاقات كثيرة بمجرد إجراء حوار مباشر.
إيما فارج