كنا رفقة عبد الكريم بنعتيق زعيم الحزب العمالي مساء الجمعة الفارط في برنامج "قفص الاتهام" على "ميد راديو", وأعترف أنها المرة الأولى التي أسمع فيها زعيما حزبيا مغربيا يتحدث بطلاقة ووضوح عن حرب فكرية وهوياتية يجب خوضها في المغرب ضد جهات معينة تريد هدم الفكرة التي قام عليها هذا البلد من الأساس, والتي شكلت حضارته وفسيفساءه وكل التنوع الذي صنعه.
للصراحة فقط, راقني كلام بنعتيق كثيرا بخصوص هذه النقطة بالتحديد, لأنني أعتبر أن السياسيين المغاربة ظلوا باستمرار جبناء من هذه الناحية, ووضعوا لأنفسهم جدارا عازلا ضدها يعفيهم من الدخول في مناقشتها, ويحصرهم في نقاش رقمي وعددي بئيس للغاية قوامه الانتخابات, هاجسه الانتخابات, أفق تفكيره الانتخابات, وأسمى مايمكن أن يحلم به...الانتخابات.
الكلام الذي قاله بنعتيق يوم الجمعة في الإذاعة البيضاوية ليس كلاما هينا على الإطلاق. العكس هو الحقيقة. الأمر يتعلق بكلام كبير للغاية, نتمنى أن يكون "الجي 8", الذي تحدث الرجل باسمه في كثير من المرات باعتباره واحدا من مكوناته, قادرا على حمل هذا النقاش إلى الساحة العامة المغربية, وأن يكون قادرا _ وهذا أهم _ على الدفاع عنه والذهاب حتى أبعد النقط في هذا الدفاع.
الآخرون, أولئك الذين تحدث عنهم بنعتيق دون أن يذكرهم, أو الذين وصفهم فقط بالمحافظين تجنبا لتسميات قد تكون ظالمة بعض الأحايين, وقد لاتكون صائبة, لم يترددوا في يوم من الأيام في الذهاب حتى قرارة فكرهم في كثير من الأمور. يوم مدونة الأسرة قسموا المجتمع المغربي إلى قسمين: القسم الصالح الذي يؤمن بتصورهم للمرأة والقسم الطالح الذي يريد خراب الدين في البلد. يوم النقاش حول كونية حقوق الإنسان والاعتراف بها قالوا "لا" صريحة, وأكدوا أنهم مستعدون لمواجهة أي كان (نكررها لكي تكون واضحة : أي كان) لعدم المساس بعلاقة المغرب بهذه الحقوق بارتباط مع الديانة.
يوم انهى المغاربة أو كادوا من دستور متقدم كان سيتحلى بشجاعة كبرى وهو يؤكد من اللحظة الأولى لديباجته أن المغرب هو بلد الأديان العديدة والمتعددة, وبلد الانفتاح العقدي الذي يضمن لكل مواطن ممارسة شعائره مثلما يشاء, أقاموا الدنيا وأقعدوها ثم أقاموها وتركوها واقفة هذه المرة, وهم يقولون إنهم "مستعدون للتصدي لكل من سيمس إسلامية الدولة", وكذلك كان. يوم رفعت التحفظات قالوا "هذه مسألة دونها الموت, فاحضيو راسكم".
في كل هاته اللحظات كانوا حاضرين, وعبروا عن موقفهم الذي يمكن أن نختلف معه, لكن بالمقابل لا يمكن إلا التنويه بشجاعتهم في التعبير والدفاع عن مواقفهم مهما كانت متطرفة أو مخالفة للطبيعة السمحة للمغربي الأصيل. بالمقابل, ظل الصمت سيد الموقف في الضفة الأخرى.
كنت تلتقي السياسي من هؤلاء المحسوبين على أهل العصر الحديث, فيمطرك بوابل انتقادات "بينك لبينو" عن هؤلاء "الخوانجية" الذين يريدون تحويل البلد إلى نسخة منقحة ومزيدة من خليط عجيب بين تركيا أردوغان وأفغانستان الملا عمر, وتونس الغنوشي, ومصر الإخوان, وبقية التشكيلات الغريبة التي انهالت على العالم العربي المسكين في سنوات انحطاطه المجيدة هاته. وبعد أن ينتهي السياسي من الكلام, يستحلفك الله سبحانه وتعالى وكل الأولياء الموجودين في البلد ألا تنشر حرفا مما قاله لأنه "غير صالح للنشر", و"سيسبب له متاعب سياسية لاتنتهي, ولا قبل له بها الآن على الأقل".
اليوم لدينا أناس يخرجون لكي يقولوا بكل الصراحة الممكنة: هناك مشروع ديمقراطي مهدد بالفعل في البلد. الديماغوجية الدينية التي تتلفح بالشعارات الكاذبة لاتتردد في الضرب تحت وفوق ووسط الحزام المسكين الذي لم يعد ظاهرا لنا لفرط الضربات التي تلقاها, وهذه الديماغوجية تعرف أن الزمن زمنها, وأن اللحظة آلت إليها بفعل الواقع وحكم أمريكا والقوى الدولية المتحكمة في اللعبة, والتي أصبحت تجاهر اليوم برغبتها في أن تجرب هؤلاء "الملتحين", وأن تعرف إلى أين يمكن أن يصل حد مغامرته, أو المغامرة ببلداننا تحت إمرتهم.
هنا لابد من قولها مهما كان: أمريكا والقوى الدولية الأخرى من حقها أن تراهن على الحركات الإسلامية إذا رأت أنها ستضمن لها كل مصالحها في المنطقة, مافي ذلك أي إشكال, لكن نحن كشعوب لهذه المنطقة, وكمنتمين إليها حقا لا مصلحة فقط, لنا الحق أيضا في أن نرفض هذه المقامرة بنا وبدولنا وبلداننا وأن نفعل شيئا نقول به هذه "ّاللا" الضرورية في هاته الأثناء.
لذلك كنت مسرورا للغاية بكلام بنعتيق يوم الجمعة, وأتمنى أن أكون قد فهمته الفهم السليم, وأن يكون الهاجس الانتخابي فعلا هو آخر هموم هذا التحالف الجديد, وأن يكون النقاش الهوياتي الهام الذي يستحق الكثير من الاهتمام في بلد مثل بلدنا هو الهاجس الأكبر, وأن يكون الحفاظ على الديمقراطية الناشئة في المغرب, (بل التي لازالت في مرحلة النطفة الأولى) هو الهدف الأساس, لئلا يأتي من يريد وأدها في المهد, لأنه يكره كل صيغ المؤنث الممكنة في الحياة, ولأنه يعتبر أن الزمن هو زمنه بقوة الفعل وحكم أمريكا.
نتمنى ولا نملك في بلد مثل البلد إلا التمني, أن نجد أخيرا سياسيين قادرين حقا على المواجهة, لا أناسا يتقنون فقط كل حيل الهروب.