أي أحمق ذاك قال ذات لحظة هذيان نظري إن ما تعيشه شعوب المنطقة المغاربية والشرق أوسطية بعد حادث العربة وصاحبها المنتحر بتونس «ربيع عربي»؟!.
وأي جنون هذا الذي حول حناجر تصدح بقصيدة «إذا الشعب يوما أراد الحياة» إلى أصوات تبكي شعوبا صارت تغويها لعبة الموت!؟.
ما نعرفه من الجغرافيا والتاريخ هو أن العرب شعب صحاري وليس أمة سهول خضراء، وهي أميل إلى اللون الأحمر الموسوم بالعنف والهيجان أكثر منها إلى مشاهد الاخضرا التي تشير إلى الدين أكثر منها إلى الطبيعة. منذ تاريخها القديم إلى اليوم، لاتعرف العرب غير لغة السلاح سبيلا للتخاطب، ولاتعتز بفروسيتها إلا بين صهيل الخيل وصليل السيوف، مثلما لاتختبر فحولتها إلا بين وديان الدم في المعارك أو بين قطراته في السرير. لا فارق بين اليوم والأمس في العقليات والمعتقدات الحربية، الفارق الوحيد هو أنه ذهبت الخيول والسيوف وجاءت طائرات «f 16» ورشاشات الكلاشنيكوف.
لسبب يرتبط بتاريخهم وعادتهم لا يفارق اليمنيون خناجرهم، وكأنهم على استعداد دائم للقتل، وحتى حين خرجوا إلى الشوارع للمطالبة برحيل عبد الله صالح، لم يتخلوا عن سلاحهم التقليدي رغم أن ما يرفعونه من مطالب كان يرنو السلام والديمقراطية، وكأني بلعنة ما تسكن تلك الخناجر، فبعد اقتتال سياسي مرير من أجل إسقاط عبد الله صالح، انحرف البلد إلى اقتتال دموي طائفي، وهاهم اليمنيون الآن تحت نيران القصف الذي يستهدف معاقل الحوثيين … إنها أسوأ سيناريوهات ثورة اندلعت شرارتها من أجل الديمقراطية، وهاهي تنتهي بالتصفيق لهدير الطائرات القادمة للتحرير أو ترفع عقيرة الصراخ طلبا للنجدة من الحوزات الشيعية في إيران.
و الليبيون حالة نموذجية خاصة، رحل القذافي لكنه ترك، مع كل الأسف المتاح والممكن، في داخل كل ليبي روح قذافي صغير، كان القذافي مستعدا لقتل الليبيين من أجل إنقاذ سلطته، لكنه مرتاح البال الآن في قبره وهو يرى الليبيين الذين أسقطوه وسحلوه يقتلون بعضهم بعضا من أجل السلطة والثروة بعدما وأدوا أحلام الثورة، من ثوريين لأجل عيون الديمقراطية صاروا طغاة لا يفقهون غير لغة التخاطب بالأسلحة التي انتشرت في البلد كما تنتشر الأسلحة البلاستيكية في أعياد عاشوراء، حتى أن الأمم المتحدة تعجز عن إحصاء عدد القتلى والمغتالين والمختطفين في بلد تفوق ثرورته النفطية والغازية احتياجات بضعة الآلاف من سكانه ..
أما في سوريا فقد صارت أنباء القتلى، من كثرتها مثل أخبار حوادث السير الروتينية في المغرب بعدما انتقلت من واجهات الحدث الدولي إلى هوامشه. نسي العالم المعارضين السوريين ونسي مطالب الثورة، وتحول كل شيء في الخراب السوري إلى بورصة لتداول أسهم الصفقات بين واشنطن وطهران في الملف النووي الإيراني، وإلى حلبة اختبار آخر، بعد الحلبة الأوكرانية، للقوة بين موسكو وواشنطن. أما العراق فتلك صفحة دمار مفتوح واقتتال دموي يومي في بلد تحتل جزء منه دولة الأحمق أبي بكر البغدادي، ويستحوذ على الجزء الآخر أتباع آية الله حسين علي منتظري، في حين حولته البانتاغون إلى مختبر حي لتجريب آخر ابتكاراتها في الأسلحة وتدريب آخر دفعات خريجي المدارس الحربية…
حتى مصر، التي اعتقدت ذات لحظة يقين أن المشير عبد الفتاح السيسي ينقذها من التطرف الإخواني بتجاوبه مع الشارع وتدخله لعزل الرئيس الساذج محمد مرسي، دفنت مطالب الثورة تحت أجزمة العساكر وصارت أحكام الإعدام شنقا تصدر فيها بالعشرات، وأصبح الإرهاب سيفا مسلطا على كل ناشط سياسي أو حقوقي ولو كان من التيار القومي أو الليبرالي … ووحدها تونس ماتزال تقف بين هذا وذاك، عرس ديمقراطي بالأمس، إرهاب اليوم، وتهديد خطير من الجار الليبي في الغد …
هي ذي لوحة المشهد العربي كما أرادها اللاعبون الكبار: «فوضى خلاقة» و«دول فاشلة» أو هي تسير نحو أن تصبح كذلك، وفي المقابل ترتسم ملامح امبراطوريات ناعمة، فهذه إيران وتركيا يراودهما حنين الزمن الفارسي والعثماني، وتلك أمريكا وروسيا تبحثان عن حلفاء في لعبة المحاور الدولية الجديدة، و كان من الطبيعي أن تستشعر السعودية والإمارات الخطر وتتحركا قبل أن تلتحقا، ومعهما دول الجوار الخليجي بالزحف الحثيث نحو هاوية الانهيار …
يا لغبائنا الجماعي، ونحن نردد، ذات لحظة هذيان نظري وسياسي، كالببغاوات أناشيد «الربيع العربي» ونعتدي على أبي القاسم الشابي في قصيدته «إذا الشعب يوما أراد الحياة … »، ونوزع على بعضنا البعض صكوك الثورة والوفاء للجماهير، ونعوث الخيانة والعمالة … قبل أن نستفيق مذعورين على واقع بئيس لا نملك غير أن نردد معه: لقد كنا محظوظين في المغرب بأن خرجنا من هذه الجهنم بخسائر أقصى ما فيها تفاهات سياسيينا ومعاركهم البهلوانية.
بقلم: يونس دافقير
AHDATH.INFO