حميد زيد كود .
لا يجرؤ أحد اليوم أن يقول أمام الملأ إنه غير ديموقراطي، رغم أن الديموقراطية، وعن طريق الانتخابات وصوت الشعب والنزاهة، قد يحدث أن تفرز لك أغلبية مشكلة من المجانين.
المهم عند المؤمنين بالديموقراطية بإطلاق هو ما يريده الشعب، والشعب لا أحد يضمن ماذا يريد، وقد يريد هذا الشعب الشر، وقد يريد قلب العالم عاليه على سافله، وقد يريد ما لا يخطر على بال.
وخاصة في المجتمعات المتخلفة، وفي الدول المتخلفة، فالديمقراطية في الغالب تفرز لك نخبة حاكمة متخلفة وتشبه شعبها.
المشهد القريب والذي مازال الجميع يتذكره، هو ما أفرزه البرلمان المصري من نخبة جديدة، بعد الثورة.
طبعا كانت الانتخابات نزيهة وشفافة، وقد تفرج العالم أجمع على برلمان مليء بالسلفيين، وبمن يقطع الجلسات ليؤم المصلين، ومن يؤذن في البرلمان أثناء مناقشة ميزانية الدولة، ومن يتجول بصندل، ومن يبكي، ومن يهدد، ومن يناقش قضية الجن، ومن يتوعد، ومن يريد الجهاد، ومن يرغب في بيع سلعته بين ممثلي الشعب.
في دولة من حجم مصر وعظمتها وحضارتها، اختار الشعب أن يصوت على أجهل ما فيه، وقاد غير المتعلمين وممتهني التجارة السلفيين، ليشكلوا الأغلبية رفقة الإخوان المسلمين، لأنها الديمقراطية، ولا يوجد إنسان سوي اليوم يجرؤ على رفضها.
وبعد ذلك، ونتيجة لما أفرزته الديمقراطية المصرية التي جاءت بعد الثورة، فتح الإعلام والقنوات التلفزيونية الباب واسعا للأغلبية الجديدة ولمن اختارهم الشعب، لأن الإعلام صار هو الآخر ديموقراطيا، وتحولت البلاتوهات إلى ما يشبه مارستانا كبيرا تسلط عليه الأضواء، وينقل إلى المصريين على مدار الساعة، نقاش ديمقراطيتهم ونخبها الجديدة.
ومن كان يجرؤ في ذلك الوقت على التحذير من ديمقراطية ما بعد الثورة، فقد كان بلطجيا ومن الفلول، وكانت الجزيرة تحدب على اختيار الشعوب العربية، وتجرب وصفتها بالفيديو، كما لو أن صحفييها كانوا يلعبون في جهاز بلايستيشون أو إكسبوكس مختارين فريقهم المفضل في مواجهة فريق الفلول وأتباع الأنظمة التي أسقطتها الثورات، وقد تحول لهو الجزيرة ولعبها ومن يحركها إلى واقع مرير، وجد ضحاياه أنفسهم عالقين فيه، ولا مخرج في الأفق، فزالت الدول وزالت الديمقراطية وزال الأمل وعم الجحيم والخراب.
كان معظم العرب يلهجون بالثورات وبالربيع وبديمقراطياتهم الناشئة، ولا أحد كان منتبها إلى ما هو أهم من الديمقراطية، وهي الدول، التي قد تزول لو طبقنا هذه الكلمة السحرية والجميلة والفاتنة في بيئة غير مؤهلة، والتي لا يجرؤ أحد اليوم على التشكيك فيها والتقليل من شأنها والتحذير من مخاطرها.
لم يتحدث أحد من هؤلاء الديمقراطيين الجدد عن الدولة ومصالحها، ولم تكن تعنيهم في شيء، وعن الحيز الذي سيمارسون فيه الديمقراطية، والمهم هو الديمقراطية وصعود الأغلبيات، ولم يتحدث أحد عن مبادىء الدولة وأركانها التي لا يمكن لأي صاعد جديد تجاوزها أو هدمها.
انتشرت العدوى في كل مكان، ووصلت إلى المغرب، وظهر عندنا ديمقراطيون جدد بإطلاق، كانوا إلى أمس القريب يكفرون بهذه الكلمة المغناج والمستوردة والتي يطبقها الغرب العلماني.
ولنتخيل كيف كان سيكون المغرب لو طبقنا ديمقراطية قطر والجزيرة والربيع العربي في المغرب.
لنتخيل العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح يطبقان برنامجهما في السياسة الخارجية للمغرب.
لنتخيل المغرب يقطع علاقاته مع مصر، لأن مصر انقلبت على رئيسها الإخواني، كما كان يتمنى ذلك قادة العدالة والتنمية والتوحيد والإصلاح.
ولنتخيل المغرب يدير ظهره لفرنسا، ويتوجه إلى بديل آخر هو تركيا مثلا، لا تأثير له في قضية الصحراء، ويعجز منذ عقود على دخول النادي الأوربي، وكل همه أن يأخذ حصته من السوق المغربية، وأن يستقبل وفد رجال أعماله في الرباط، فقط لأنه يتبنى مشروع وصول الإخوان إلى السلطة في كل مكان.
ولنتخيل المغرب وهو يراجع علاقاته مع صديقين وحليفين تاريخيين هما السعودية والإمارات نزولا عند رغبة الإسلاميين المغاربة، الذين يدافعون عن قطر واختياراتها، ولا يهتمون بخسائر المغرب كدولة، في هذا الصراع الذي وجدوا أنفسهم متورطين فيه.
ولنتخيل المغرب يحارب الفرونكفونية في التعليم، وينقلب على نفسه وعلى مصالحه وعلى نخبه وعلى هويته واقتصاده المرتبط بالاقتصاد الفرنسي، إرضاء لعقدة لدى الحزب التي يتوفر على الأغلبية، والذي لا تمل صحافته والموالون له، من التحذير من خطر الفرنسية ومن يدافع عنها وشيطنتهم.
ولنتخيل نظاما تعليميا مغربيا يبدأ من الصفر، بعد أن يتخلى عن الفرنسية في التعليم، ويحاربها ويطردها، ويتوقف التلاميذ المغاربة عن الالتحاق بالمدارس الكبرى، والانتظار لعقود حتى نستأصل آخر فرونكفوني، استجابة لحقد ثقافي وإيديولوجي يسكن أصحاب هذا المطلب.
لنتخيل المغاربة يرفلون في نعيم الديمقراطية
لنتخيل الحكومة تأتمر بأوامر الريسوني
ولنتخيل سياسة المغرب الخارجية يسيرها عضو في حركة التوحيد والإصلاح، ولا أحد يحذره، ولا أحد يكبحه، ولا أحد يقول له: هذه دولة وليست لعبة.
ولنتخيل الميولات والأهواء والإيديولوجيات تتحكم في القرارات وتغامر بالمصالح
ولنتخيل الديمقراطية طليقة اليد
لنتخيل المغرب بلا حليف فرنسي
وبلا صديق سعودي وإماراتي
وبلا حلفاء تاريخيين
وبلا من يعتبر مصلحته رهينة باستقرار المغرب والدفاع عن مصالحه
ونتذكر أن الجزيرة صنعت لعبة بلايستيشون خاصة بالمغرب
وانطلقت لعبة الثورة والحراك هنا أيضا
وشرعوا في اللعب
وأمريكا طبعا موافقة لأنها هي التي تخطط من فوق
ولولا الألطاف
ولولا هؤلاء الحلفاء الذين يطالب البعض اليوم بإدارة الظهر لهم
ولولا وجود دولة قوية أو موازية حسب الكلمة التي ترغبون في استعمالها
لفعل الربيع العربي مفعوله فينا، ولتمتع اللاعبون في الجزيرة بنا ونحن نقتل بعضنا البعض
ونثور
ونختار الديمقراطية
ولأصبحنا مثل اليمن
ومن حسن حظنا أننا لم نكن ديمقراطيين مائة في المائة
وفضلنا النموذج المغربي على النموذج الذي كانت تنظر له قطر
ومن حسن حظنا أن بنكيران
ليس هو الريسوني
وأن رئيس الحكومة أصبح مع الوقت يرى الواقع بالعين المجردة
ويعترف أن لا بديل عن الفرنسية في المغرب ولا يمكن تعويضها بالإنجليزية هكذا وبمجرد قرار
ولا بديل لفرنسا
ولدهائه يساير حزبه
ويرضي الملك
ويرضي حزبه وحركة التوحيد والإصلاح
ويرضي الشعب
ويرضي رجال الأعمال
ويرضي الفرونكفونيين
ويقول لكل شخص ما يرغب في سماعه
ويمدح الربيع العربي
بينما كان هو أول المحذرين منه ورافضيه
والسعادة تعم الجميع
والكل يحكم
والكل يعارض
في أنجح تجربة “ديمقراطية” الآن في العالم العربي.
ديمقراطية بالتقسيط
وليس دفعة واحدة
ولكم أن تتخيلوا على أي شيء كنا سنحصل لو طبقناها بالمطلق
تخيلوا معي يا أنصار الديموقراطية
من سيحكمكم
لكن لا أحد يجرؤ على قول كلمة سوء عنها
لا أحد يريد أن يعترف أنها ورغم جمالها وإغرائها وفتنتها
فقد تنجب لك وحشا
يقضي عليك ويقضي على دولتك.
ولا أحد يستمع إلى الرجعيين
لا أحد يتفهم رغبتهم في أن يبقى الوضع على ما هو عليه
لا أحد يتفهم خوفهم من المستقبل.