مع كل التجاوزات الممكنة لمفهوم الدولة الوطنية، في زمن الميل المتصاعد نحو الإندماجات في مشروع الدولة العابرة للحدود وحتى القارات، إن جاز لي هذا التعبير، لا يمكن الفصل بين الإلتزام الديمقراطي، والوفاء للهوية الوطنية، لندع التعبير يكون أوضح بمنطق اللاءات التعبيرية المتداولة: لايمكن أن تكون ديمقراطيا دون أن تكون وطنيا، مثلما لا يمكن أن تكون وطنيا من دون التزام ديمقراطي. لكن واقعنا العسير شيء آخر، هناك وطنيون حقا لكنهم ليسوا ديمقراطيين تماما، وهناك أيضا ديمقراطيون، لكن ارتباطهم الوطني هش أو ملتبس. وبسبب هذه المفارقة، ننتج في فضائنا العمومي الكثير من «انكساراتنا» الديمقراطية و«هواننا» الوطني.
لن أكون مباشرا وسأحتمي بالتجريد، إنه الملاذ الآمن حين تصير الكتابة الصريحة دليل إدانة على وجود آلة توجيه عن بعد، وتلك حكاية أخرى لعطب مزمن في ذهنية ساستنا المحترفين ومناضلينا الأفذاذ. «أناك» وعقلك الخالصين لاوجود لهما، إنك بالنسبة لهؤلاء، الذين يعطون لأنفسهم سلطة الاستبداد في توزيع صكوك الغفران الوطني والديمقراطي، مجرد لعبة في يد الآخرين، كل العمر الذي هدرته في دراستك، وكل السنوات التي أحرقتها في إنضاج خبرتك في النظر للأمور، لاقيمة لها، فأنت تكتب، لأنك تتلقى التوجيه، وأنت تصمت، لأن الأوامر صدرت لك بذلك!!.
لندع تلك الحكاية جانبا، لنعد إلى نقاشنا الأول حول الإرتباط الجدلي و العضوي بين الإلتزام الديمقراطي والإنتماء الوطني، في دولتنا المغربية، بمفهوما الدستوري العام، مسؤولون وطنيون من دون أدنى شك في ذلك، لكن التزامهم الديمقراطي مايزال غير مكتمل القناعة، لقد تربوا لأسباب عائلية أو تاريخية أو حتى للاعتبارت النفسية للمسؤولية على قيم الغيرة الوطنية والحماسة في الدافع عن الوطن، لكن الالتزام الديمراطي يبدو «بضاعة» جديدة عليهم، إنهم المنتوج الخالص لمقولة أن الأمن أسبق من الديمقراطية، وأن التنمية الاجتماعية ومعدلات النمو الاقتصادي المرتفعة، كفيلة بامتصاص القواعد الاجتماعية للخطاب الديمقراطي، وهما أكثر قدرة أيضا على جعل منسوب الديمقراطية متحكما في صبيبه، وخاضعا لتقلبات الظرفيات، من حيث وجود ضغوطات من عدمها.
لكن، وفي الجهة الأخرى لاتوجد الجنة بينما الآخرون هم الجحيم، في أوساط مناضلينا من أجل الديمقراطية من تأسرهم عقيدة شديدة الصلابة، أن تكون «ديمقراطيا حقيقيا»، وتكون «مناضلا مغوارا وشريفا»، يقتضي بالضرورة والحتمية أن تكون على الدوام على يسار الدولة، لايجب أن تلتقي معها أبدا، وحتى حين تبدي حسن نيتها عليك أن لا تنصت ولا تأخذ الوقت الكافي لتقييم المواقف والمتغيرات، فقط إصعد بسرعة إلى أعلى مستويات الشك وتربع فوق عرش الراديكالية. وحتى حين تكون الدولة الوطنية في مواجهة الآخر الأجنبي، ينبغي، وكي تكون مناضلا ديمقراطيا وفيا، أن تقف في صف الآخر الأجنبي، ضد الـ«هذا» الوطن فقط لأنك تحترف، بتخلف فكري أحيانا وباسترزاق مالي أحيانا أخرى، معارضة «الحاكم» أيا كانت الأوضاع ومهما استجد من ظروف تصب في خانة نفس ما تناضل من أجله.
هل أواصل التجريد؟. تمنيت ذلك، لكن المباشرة في التعبير تضغط علي، وهاهي تنفلت من عقالها، في قضية ترحيل الصحفين الفرنسيين من المغرب الأحد الماضي بعد حجز معداتهما، اختار البعض من السلطة أن يكون متطرفا في الممارسة الوطنية حتى اصطف في خندق التسلط وهو ينتهك حرمة مقر جمعية حقوقية ويعتدي على إحدى عضواتها، وفي نفس الواقعة، انحازت تلك الجمعية إلى فهم «طوبيسي» وفوضوي للحريات العامة في دفاعها عن الصحفيين الفرنسيين، حتى ما عادت تعير اعتبارا لمفهوم السيادة وهيبة الوطن.
هذا مجرد مثال وواقعة من عشرات الوقائع الأخرى في قضايا الإرهاب وفي موضوع الصحراء وحرية الصحافة والتظاهر… في كل مرة وعند كل اختبار نعيد اجترار نفس الانفصام بين الإنتماء الوطني والإلتزام الديمقراطي، ومادام الوطنيون والديمقراطيون لم ينجحوا بعد في خلق التطابق بين هذين الحدين في الهوية وفي الممارسة، سنظل نعيد إنتاج نفس التوثر في العلاقة بين الديمقراطية والوطنية، ونبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها حبيسي التوجس وانعدام الثقة بين «المعسكرين»، وفي النتيجة، ستظل وضعية القصور على ما هي عليه، حيث لا وطنية من دون ديمقراطية وحيث لاديمقراطية من دون وطنية.
يونس دافقير