ثمة اعتقاد سائد لدى بعض المعلقين، وحتى الأكاديميين حديثي العهد بتتبع الحقل السياسي الحزبي المغربي، إنهم يظنون، وبقدر وافر من السذاجة أحيانا، أنهم بصدد اكتشافات مبهرة وغير مسبوقة، لتناقضات العنف اللفظي الذي يسم خطاب التشكيلات الحزبية الكبرى، إنهم يتساءلون وباستمرارية مكرورة، مع قدر غير يسير من نشوة الفاتحين الجدد، عن كيف أن السياسيين يتقاذفون الإتهامات البالغة الخطورة، دون أن يذهبوا رأسا إلى المواجهة الحتمية التي يفرضها المنطق الظاهر لأي خطاب موسوم بعنف الألفاظ.
في تفاصيل الوقائع الكثير من المعطيات الموضوعية التي تدفع إلى هذا النوع من الإعتقاد الذي يعتبرونه، دليلا إضافيا على خصاص رصيد المصداقة الحزبية، يمكن لرئيس الحكومة مثلا أن ينعت حزبا بأنه «أصل تجاري فاسد» لكن دون أن يذهب إلى حد استعمال سلطاته لحله، كما يمكن لرئيس حزب أن يتهم رئيس الحكومة بأنه «عميل للموساد ويمول داعش»، من دون أن يضع شكاية لدى القضاء طلبا لإدانته … وفي غالب الحالات الأخرى وهي كثيرة، يتبادل السياسيون الوعيد بمقاضاة بعضهم البعض، لكن لا أحد منهم يطرق أبواب المحاكم في نهاية المطاف.
الأمثلة لاتوجد فقط في قضايا الإتهام التي تقع تحت طائلة القانون الجنائي، بل إن الإزدواجية بين الموقف «التصعيدي» والممارسة «المهادنة»، تظهر في التدبير السياسي أيضا، يمكن للمعارضة أن تتهم الحكومة بأنها فاشلة في كل شيء، لكنها لاتبادر إلى تحريك ملتمس الرقابة لإسقاطها ولو كفعل رمزي، وقد رأينا كيف أن أحزاب المعارضة شهر دجنبر الماضي كالت أشد الإنتقادات لمشروع القانون المالي، لكنها لم تصوت ضده، واختارت في المقابل الإمتناع عن التصويت..
في ظـاهر الصورة يتعلق الأمر بتناقضات تثير الإستغراب، لكنها ومع ذلك، تعتبر من صميم السلوك التقليدي للنخبة السياسية المغربية، إنها تشعل فتيل التوثر لكنها لا تنقاد إلى تأجيج النيران وإعلان المواجهة النهائية، تعلن مواقف مبدئية من غير أن تنتج ممارسة قطعية، هي في الأخير لعبة التوثر المتحكم فيه، حيث لاتهدئات تامة، ولا حروب كاملة.
وفي الواقع، يدرك الفاعل الحزبي العوائد السياسية والتنظيمية لهذا النوع من السلوك الإزدواجي، إنه يساهم في تنشيط الحياة الحزبية، التي تبدو راكدة حين يتعلق الأمر بالنقاشات الجدية، كما أنه يساهم في خلق الفرجة التي من شأنها توسيع شبكة الأتباع المعجبين مع الحرص على تحقيق الفوز بالنقط دون توجيه الضربة القاضية للخصم كما يحدث في حلبات الملاكمة، والأهم من ذلك كله أنها تسمح للحزب بتعبئة أعضائه والحفاظ على تماسكه الداخلي، وجعله في حالة يقظة دائمة وسط حقل سياسي لايرحم الخاملين، ويدفع إلى الهامش بأولئك الذين يربطون تطرف الموقف بممارسته الميكانيكية في الميدان.
والأكيد أن هذا العنف اللفظي لايسمح لنا بتوقع السلوك المستقبلي للفاعل الحزبي المغربي، إنه يعطي الإنطباع في الظاهر بأن قطائع نهائية تلوح في الأفق، وخطوط حمراء ترتسم في وجه المصالحات وحتى التحالفات، لكن عكس ذلك هو ما يحدث في الغالب، لقد كان حزب الأصالة والمعاصرة وحزب العدالة والتنمية خصمين لذوذين يوجدان «على شفا الإقتتال» بمناسبة الإنتخابات الجماعية لسنة 2009، لكنهما تراجعا عن عداواتهما ليتحالفا في تسيير مجالس طنجة ومراكش، كما ساد الإعتقاد أيضا بأن التجمع الوطني للأحرار وحزب العدالة والتنمية لن يلتقيا أبدا بعدما تبادلاه من عدوات مؤسساتية وشخصية، لكنهما طويا الصفحة ليتحالفا في تشكيل النسخة الثانية من حكومة عبد الإله ابن كيران، ولايبدو أن الأمر يتعلق بخاصية مغربية متفردة. في تونس، ولدت حركة النهضة وحزب النداء لدى المتتبعين في للإنتخابات التشريعية إحساسا بأنهما خطان متوازيان لن يلتقيا أبدا، لكن، وعلى العكس مما كان متوقعا ، هاهم وزراء الحركة والنداء، يجلسان جنبا إلى جنب في حكومة الحبيب الصيد.
سيكون كل هذا مفيدا لكي لا تخدعنا مظاهر العنف اللفظي المتبادل هذه الأيام بشكل غير مسبوق في حقلنا الحزبي الوطني على بعد أشهر قليلة من موعد الإنتخابات الجماعية والجهوية، سيرى البعض ما سيظنه مرة أخرى اكتشافا مبهرا لمفاجآت غير متوقعة، لكنها طبيعة النخبة الحزبية المغربية، الأولوية في الأول والأخير للمصالح (وليس بمعناها القدحي بالضرورة) وليس للعداوات، ولن يكون صادما بعد كل هذا أن يجلس مستشارو الأصالة والمعاصرة أو الإتحاد الاتشراكي إلى جانب مستشاري العدالة والتنمية لتدبير جماعات محلية ومجالس جهوية.
ستصدق مرة أخرى تلك المقولة الشهيرة حيث لاشيء يحدث في المغرب كما نتوقعه، لأن الوصفة السحرية في ترتيب العلاقات السياسية ثابتة منذ القديم: في السياسة ليست هناك صداقات دائمة مثلما أنه ليست هناك عداوات دائمة أيضا، والساذج وحده، أو المتطرف الإيديولوجي والمبتدئ السياسي من يعتقد غير ذلك.
يونس دافقير