هو مجرد صحافي ياباني، أتى إلى تلك الأرض لكي يقوم بعمله. لم يأت مسلحا، ولم يأت حاملا أي آلة دمار سوى كاميرا تصوير، ظل يشهرها باستمرار في أعين الصغار المندهشة والمحدقة فيه والمتسائلة عما يختفي وراء العلبة السوداء الحديدية.
كان يبتسم بكل ثقة في المستقبل أمام الصغار وهو يريهم أسرارها، ويحكي لهم عن طريقة اشتغالها ويسألهم في الفيديوهات التي تجول له في الأنترنيت “من منكم يريد أن يصير صحافيا حين يكبر؟”. كانوا يضحكون بصخب وهم يرون هذا الياباني ذا الأعين الضيقة، والشعر المرسل وراء رأسه، وبالتأكيد كانوا يسألون أنفسهم عن السبب الذي يجعله يترك أسرته وبلاده البعيدة، هناك حيث الشمس تشرق ولا تغيب، ويأتي إليهم في غياهب الصحاري العربية لكي ينقل أخبارهم.
لن يفهم الصغار معنى الصحافة والابتلاء بها إلا بعد أن يكبروا، تماما مثلما لن يفهموا لماذا مات كينجي غوتو برأس مقطوعة، بخنجر حاد وموضوعة فوق الجثة، مرفوقة بتحية إلى الشعب الياباني كله وبتهديد أنها لن تكون الجثة الأخيرة في حرب الجهل والدمار هاته ضد الآدمية.
لسبب ما تذكر العديدون وهم يسمعون بمقتل إينجي صحافيي شارلي إيبدو ورساميها المقتولين. هي نفس المعركة، وإن لم ترد عقلية الخلط الاعتراف بها: معركة قتل صحافيين أو رسامين أو مراسلين حربيين فقط لأنهم يقومون بعملهم، ولأنهم لايستطيعون حماية أنفسهم من هؤلاء التتار الذين يقتصون منهم بسبب أمور لا علاقة لهم بها على الإطلاق.
كينجي ليس الأول في لائحة الموت الداعشية، ولن يكون الأخير، لكن خاصيته هي أنه كان مسالما إلى أبعد الحدود، مثلما روى ذلك كل من عاشروه، وأنه كان مجرد صحافي يريد نقل رؤية هذا الجزء القصي عن العقل إلى بلاده. بل وفي الروايات التي نكتشفها اليوم، كينجي كان متعاطفا مع معارك العرب، وكان يتصور أن الغرب يحتقرهم، لذلك يقومون بما يقومون به. عندما كان متوجها إلى سوريا والعراق سأل أصدقاء كينجي هذا الصحافي ذا السبع وأربعين عاما “لماذا؟”. أجابهم “لإيصال صوت من لا صوت لهم، الناس تعاني في تلك المناطق في غفلة من الجميع، ولابد من نقل أخبارهم لكي نحس بهاته المعاناة”.
تراه غير رأيه في اللحظات الأخيرة من حياته؟ تراه آمن بتصور آخر بعد أن رأى زميله الأول يذبح أمام عينيه؟
أم تراه لام نفسه أن احترف الصحافة وأتى لممارستها في مكان يستحيل فيه أن تمارس العيش، فأحراك أن تمارس فنا كبيرا من فنون التقاط تفاصيل الحياة يسمى الصحافة؟
في كل الحالات، يصعب وصف الحال، ويصعب العثور على كلمات توصل ما أصبحنا نحس به وقد أصبح جزء منا متخصصا فقط في تصدير الموت إلى كل الأصقاع، حتى وصلنا إلى اليابان…هناك في المكان السحيق البعيد، وحتى استطاع أن يوصل عن هذا الدين المسكين أسوأ الصور وأكثرها انتماءا إلى الوحشية والبربرية والهمجية وكل المفردات الغاضبة.
من المسؤول مرة أخرى عن هذا المأزق؟
مسؤوليتنا الكبرى الخلط، وعدم قدرتنا على تسمية الأمور تسميتها الحقيقية، والصراخ في وجه هؤلاء الإرهابيين أنهم قتلة وليسوا أي شيء غير ذلك.
لسنوات عديدة زرعنا فيما بيننا عبارات الالتباس الجبانة، ودارينا خيبة عدم القدرة على الالتحاق بالعصر الحديث بكلمات خائفة تقول إن التطرف العلماني يولد التطرف الإسلامي، وأن الاستكبار الغربي هو الذي أنتج هاته الكائنات السرطانية، وأننا لا نبرر لكننا نفهم، وأننا لا نعذر، لكننا نحاول أن نقرأ الأمور بشكل عميق.
في الحقيقة كنا فقط ننتظر أن يصبح للموت وجه واضح يخرج علينا كل يوم بهذا الشكل الأخرق الشجاع، لكي يصيح فينا احتقاره لنا جميعا، ولكي يقول لنا “خفتم منا فأصبحنا أقوى منكم جميعا، والآن إبحثوا لكم عن طريقة للخلاص”.
لن نجدها طالما بقينا ملتبسين.
سنتخلص من هذا الكابوس، حين سنمتلك خاصية الوضوح، وحين سنسمي القط قطا والإرهاب إرهابا، والقتلة قتلة جبناء لا أقل ولا أكثر.
في انتظار ذلك لترحم السماء كينجي، ولترحمنا معه جميعا فنحن لا نحتاج لشيء آخر أكثر من الرحمة بالتأكيد.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
غادرت الجزائر المنافسات الكروية القارية من الباب الضيق، بعد أن قدمت صحافة العسكر منتخب بلادها باعتباره الأوفر حظا للحصول على هاته الكأس، بل والمرشح فوق العادة، والمنتخب الذي خاف منه المغرب إلى حد إلغاء تنظيم كأس إفريقيا في بلادنا.
أبناء المدرب رونار قدموا درسا في الواقعية الكروية لمنتخب الجزائر الذي بدا شبيها بمنتخبنا أي بعيدا تماما عن فهم معنى الكرة الحديث.
إذا عمت هانت. هذه هي الخلاصة.
المختار الغزيوي