بقلم أحمد رمزي الغضبان:
كلما زرت مدينة (رجال الميعاد)، هذه الأم الكئيبة لسوء الوضع والمآل، إلا وامتلكني الحزن، فأشعر بثقل كآبتها ينعكس على صفحة نفسي، ليغمرني أسى عميقا، إحساس بالتمزق لتمزق ذاكرة هذه الحاضرة الفيحاء: مدينة أبي الجعد، التي ضاعت بالفعل ذاكرتها الحافلة بالعديد من الأعلام والمعالم، وذلك لعدة عوامل يتصدرها عامل تغييب الثقافة والمثقفين والإعلام، إلى جانب الإقصاء المتعمد والتهميش من طرف الجهات المسؤولة عن التخطيط التنموي بالمنطقة، إلى جانب الجهل بالقيم التاريخية الرفيعة التي تميز مدينة أبي الجعد، هذا إلى جانب عوامل أخرى يأتي الحديث عنها في مقام آخر، ومقالتي ضمن هذا العدد من بوابة أبي الجعد: مدينة الكفاح الوطني والتاريخ والعلم والعرفان، تأتي خطابا أرجو أن يتبين صوته جليا القائمون على الفعل الثقافي وتدبير الشأن المحلي بالمدينة، هؤلاء الذين يتحملون المسؤولية كاملة عندما نتحدث عن ذاكرة مدينة أبي الجعد، وقبل سنتين وأنا أمر صدفة أمام مكتبة تفتقر إلى أدنى مقومات المكتبة بهذه المدينة العريقة، وقد علق على جدارها في الواجهة اسم (احمد الشرقاوي)، فهل يعرف هؤلاء المسؤولون على قطاع الثقافة بهذه المدينة الغراء من هو احمد الشرقاوي؟ وقد كان التقليد، قبل افتتاح هذه المكتبة، أن يعقد فضاء ثقافي للاحتفاء بهذا الاسم الذي حظي بالتقدير الوطني والدولي في مجال الثقافة البصرية، والمسؤولون عن الثقافة بابي الجعد لا يكادون يعرفون عنه سوى الاسم، ففكروا بجعله ديكورا على اسم مؤسسة داخلها نخب اجوف من الثقافة والإبداع، وخارجها مجرد إطار من اسمنت وأحجار وحديد .
من هو احمد الشرقاوي المنسي من الذاكرة ؟؟
يعتبر احمد الشرقاوي واحدا من أبرز الرواد الذين أسسوا لحركة الفنون التشكيلية بالمغرب، ولد بمدينة أبي الجعد (درب القصيرة) في ثاني أكتوبر عام 1934، فالتحق بعد حين بالكتاب (بدرب القصيرة) دائما، فحفظ القرآن الكريم، وبدأ يتلقى المبادئ الأولى للعلم، وقد أبدى منذ فجر طفولته ميله الشديد إلى الرسم والخط والألوان، كما تشبع في عمقه بالجو المحيط به من تصوف ووجدانيات وروحانيات تضوع بها أجواء الزاوية الشرقاوية، فكان رحمه الله متدينا، مستقيم المزاج، عطوفا، متسامحا، محبا للخير والسلام، وقد عاش طفولته الأولى متنقلا بين مدينتي أبي الجعد وبني ملال.
وفي طريقه نحو البحث عن الذات، انتقل احمد الشرقاوي إلى مدينة الدار البيضاء، فبدأ يشتغل خطاطا مع صديق العمر الفنان احمد الجوهري، فكان بالفعل متميزا، واستطاع أن يؤسس للعديد من العلاقات الاجتماعية التي جعلته محط اهتمام واسع حتى أصبح أشهر خطاط بمدينة الدار البيضاء، أما نقطة التحول في حياة احمد الشرقاوي الفنية، فقد كانت عندما سافر إلى فرنسا لدراسة فن التشكيل، حيث التحق عام 1956 بمدرسة الفنون الجميلة بباريس، وفي عام 1959 حصل احمد الشرقاوي على شهادة مدرسة المهن الفنية في باريس، وفي عام 1961 دخل مرسم (اوجام) بمدرسة الفنون الجميلة في باريس، ثم حصل في نفس السنة على منحة لدراسة الفن بأكاديمية الفنون الجميلة في (فارسوفيا)، حيث تعرف على الرسام التجريدي البولوني (ستاجوسكي)، وفي نفس العام أبدع احمدا لشرقاوي، أثناء إقامته في (فارسوفيا) مجموعة من الأعمال التشكيلية المشهورة عالميا باسم (ليالي فارسوفيا).
وفي عام 1964 عندما أقام احمد الشرقاوي معرضه عند (جان كاسيل) في باريس، كتب عنه (جاستون ديل) معلقا :((لم تكن الإشارة عند الشرقاوي محض ابتكار أو مجرد وهم نسجه الخيال، فإنها تعود بطبيعة الحال لتصبح وجودا دافئا ونداء بليغا، إن الإشارة الهندسية الشكل في التقليد المغربي وخاصة البربري منه إنما تمثل لدى الفنان، بوجه خاص، ملاذا غريزيا)).
وكتب عنه صديقه الأديب والكاتب الراحل (ادمون عمران المليح) فصولا يقول في إحدى صفحاتها :((… لم يكن الشرقاوي ممن يميلون إلى السهل من الأمور، أو يسعون إلى النجاح الرخيص المؤقت، والربح المادي الوفير، ويتلمسون حياة الأضواء في قاعات العرض، وينجرفون في دوامات نجاح باهر، ولكنه زائف، لذا كانت سنوات تأهيل نفسه لمهنة المصور سنوات صعبة، سنوات بطيئة، سنوات صبر، ومثابرة أمضاها بوجه خاص في التأمل المتواصل في التصوير الذي كان يطالعه في إطار الواقع المغربي الذي كان أساس ولمحة حياته.
وكتب صديقه عبد الكبير الخطيبي في مؤلفه (الجذور السامقات) متحدثا عن احمد الشرقاوي والجيلالي الغرباوي): ((…كنت على صلة بالاثنين… عرفت احمد الشرقاوي عام 1961، كنا نتناقش في الثقافة القومية وفي إمكانية البحث عن فن يمكن رده إلى أصوله والوقوف على نشأته حتى يمكن إحداث تغيير في الطريق التي نسير عليها، والأسلوب الذي نتبعه…)).هذا إضافة إلى العديد من الدراسات والإصدارات والمقالات التي كانت تتناول أعمال الفنان احمد الشرقاوي بالبحث والتحليل والدراسة والاهتمام .
أقام الفنان أحمد الشرقاوي عدة معارض لأعماله الفنية الخالدة، وقد اشترى (اندريه مالرو) إحدى لوحاته الفنية، كما اشترى الدكتور المهدي المنجرة لوحتان من أروع لوحات الفنان احمد الشرقاوي تحمل إحداهما تحمل اسم نور الدين)، ولهذه اللوحة قصة طريفة، بحيث أن زوجة الشرقاوي عندما وضعت مولودهما الأول (نور الدين) في العام 1964، ترك احمد الشرقاوي زوجته في المستشفى في ساعاتها الأولى بعد الولادة، فذهب إلى ورشته بالبيت، فرسم لوحته التي أعطاها اسم ولده البكر (نور الدين)، وهي اللوحة التي اقتناها الدكتور المهدي المنجرة، وعندما علمت زوجة الشرقاوي بالخبر، اشتد أسفها، وأثر في نفسها أن يبيع زوجها هذه اللوحة التي تحمل اسم ابنهما البكر (نور الدين).
وختاما، أشير إلى أن الفنان الكبير أحمد الشرقاوي هو مبدع الاتجاه الروحي الذي يهتم بالجوانب النفسية اكثر من اهتمامه بالجوانب السطحية الظاهرة، ولوحاته تنبض بثلاث عناصر تحضر بقوة في أعماله الفنية: الإيمان، الحب، والنور، كما أن جميع أعماله يطبعها البعد الروحي، لنشأته في بيئة صوفية دينية، قد تسللت آثارها إلى عمقه الوضاء، منبثقة من الأجواء الروحانية التي تفيض بها الزاوية الشرقاوية المباركة بمدينة أبي الجعد، وهي خاصية أصيلة قد أهلته بالفعل أن يترجم ديوان (الحلاج) ترجمة روحية إلى لوحات إبداعية نابضة خالدة.
توفي الرائد الكبير أحمد الشرقاوي بمدينة الدار البيضاء في 17 من شهر غشت عام 1967، ودفن بمدينة أبي الجعد، وكان قد عين في ذلك الوقت أستاذا لمادة الرسم بإحدى معاهد الفنون بفرنسا، رحل احمد الشرقاوي واكتست بعده مدينته سربال الكآبة حزنا على الرحيل، وأسفا على المآل الذي يجسد في مرارة للإجحاف والإهمال الذي لقيه هذا الهرم الشامخ في قلب الوطن عندما نستحضر رموز الإبداع الإنساني الشامخ، ليتجسد اسم احمد الشرقاوي على جدار درب متهرئ الجدران بالمدينة، فنعتقد مخطئين بأننا قد قمنا بواجب التقدير والتكريم، أو على واجهة مكتبة عقيمة مفتقرة لأدنى مقومات المكتبة، ومن المؤكد أن القائمين على شأنها لا يكادون يعرفون قيمة هذا الاسم الوازن في سجل عظماء الإبداع الإنساني الرفيع، أما أبناء الأجيال اللاحقة في مدينة(بوعبيد الشرقي المباركة)،فاني التمس لهم العذر إن هم لم يعرفوا الرجل، فان الوزر يحمله عنهم جميعا: القائمون على الفعل الثقافي في هذه المدينة من مندوبية ومجالس منتخبة، مؤسسات تفتقر لأدنى تصور يمكن أن يسهم في إحياء الذاكرة المحلية لمدينة أبي الجعد، كما يمكن اعتماده لتسطير مخطط هادف ووجيه، يمد جسور التواصل بين الأجيال، ويحيي الثقافة ويبعث قيم الإبداع، ويهتم برجال الفكر والعلم والأدب، فإذا ضاعت الذاكرة و ضاع التاريخ وضاعت القيم، فعلى الدنيا السلام.
احمد رمزي الغضبــــــان
اعلامي ومنشط إذاعي – مراكش