عفراء جلبي
قبل عدة سنوات لما وصلت إلى كوالالمبور، عاصمة ماليزيا، وبينما كنت أمشي بسرعة في مطارها، واجهتني مظاهر إسلام رقيقة من آيات وخط عربي ونساء ماليزيات بملابس محلية زاهية جعلتني أتوقف.
كان من الواضح أنني في بلد إسلامي عريق، وكنت كالذي يستيقظ من حلم لأذكر نفسي بأني في أقصى الأرض. مدينة بعيدة عني في كثير من أمورها ولكن قريبة إلى القلب بإسلامها. أتذكر في لحظتها ما دار في خلدي. إن ما دعى له رجل في واد غير ذي زرع وصل إلى هنا وصار شجرة ظليلة. كان الإسلام جزءا من حياة الناس الطبيعية وكان من الواضح أنه متجذر في هوية السكان الأصليين الذين تعايشوا بشكل إنساني مع الجاليات الهندية والصينية التي هاجرت إلى الجزر الماليزية واستقرت فيها.
بعد الوصول إلى الفندق لاحظت كلمة "حلال" على زجاجة الماء. وجدت الأمر غريبا. ضحكت، وقلت في نفسي طبعا لا أرى فيها خنزيرة.
في الليلة التالية وبعد زيارة مؤسسات نسائية عزمتني نساء صينيات وهنديات إلى العشاء—هناك مطعم شعبي له قعدة مسقوفة بين الأشجار يعجبهن ولكن هل سيناسبني؟ لم أفهم ترددهن. فقالت إحداهن إنه ليس مطعم "حلال." فقلت باستثناء الخنزير والكحول سيسرني العشاء معكن في اي مكان. ولما وصلنا عبرن عن سعادتهن ثم شرحت إحداهن كيف كن يأتين مع صديقاتهن المسلمات قبل أكثر من عشر سنوات لهذا المطعم وكيف لم يعد المسلمون يدخلون إلى مثل هذه المطاعم. لكن أظهرن تفاؤلا بالعرب وأنه توجد مسلمات مثلي تقبل أن تأكل مع مجموعة من نساء من خلفيات هندوسية وبوذية ومسيحية.
بصراحة شعرت بإحراج وكنت أعرف أنه ليست عندي أخبار طيبة عن تزايد الانفتاح والإنسانية والعالمية القادمة من "حارتنا."
طلبت النساء جوز الهند الطازح. وحينما وصلت كرات خضرات استغربت، ما هذا؟ أكتشفت بأنهم يشربون ماءه بدل العصير أحيانا. بصراحة كان لحظة نعيم. الطعام والشراب والحديث الودي. كنت أنظر في وجوهن ولا أرى إلا أخوات. رغم أني لم أعرفهن إلا لساعات وكنت أجلس في ابعد نقطة وصلت لها في حياتي. لكن دفء الحديث ورائحة الياسمين الهندي والعشاء اللذيذ جعلني أشعر بالقرب.
صارت ذكرى هذه الليلة تعود لي مؤخرا وأنا أتابع ما يحدث في المنطقة العربية.
ما يجعلني أشعر بالقلق أن غربة سوداوية تنتشر بين المسلمين بتسارع وينصب اللون الأسود نفسه علما للرجال ولباسا للنساء ويأكل الألوان والتعدد في طريقه كأنه جراد منتشر.
كيف استطاعت توجهات حادت عن روح الإسلام العالمية أن تبتعد إلى هذه الدرجة وتدخل في غربة فكرية وعاطفية مع الذات والآخر؟
هذا الانغلاق واختيار الأسود ورفض النفس والآخر ينهش حاليا جسد ثقافة عريقة تجلى فيها الإسلام بحلل متعددة مثل فيروس ضاري. فهو يهاجم اولا التعددية واختلاف الألوان والمشارب، ويفتك بجهاز المناعة في العقل الجمعي ويدمر روابط الألفة والقرب الفطري التي تظهر بين البشر بشكل فطري.
يركز القرآن على سنة الاختلاف بين البشر والثقافات وأن تكون حرية العقيدة –لا إكراه في الدين—هي مرتكز التفاعل وأن يكون التنافس على الخير محفزا لابداعهم وانتاجهم. ويتوجه بنداء إنساني: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير." بينما المسلم المتشدد أقرب إلى فرعون والنمرود حاليا وهو يصرخ "أنا ربكم الأعلى" ويقول لمن يختلف عنه "أنا أحيي وأميت."
آية "الشعوب" تختزل الكثير وتضع معيار اتقاء الخطأ (التقوى) كمقياس تفاضلي بين البشر بغض النظر عن هوياتهم الجنسية والدينية والقومية. وهي آية تذكرنا بحادثة قريبة تفضح غربة المسلمين عنها. فهي الآية التي قامت باختيارها اوركسترا أندونيسية لغنائها كقطعة أوبرا لإهدائها للمسلمين. فما كان من "بعض" المسلمين إلا أن أقاموا الدنيا واقعدوها واعتبروها إهانة –لأن الهدية لم تكن "حلالا" مما اضطر الأوركسترا لتقديم اعتذرات كبيرة. هذه القصة تختصر برأيي الإشكاليات التي تحاصرنا. فقد كان ارتكاس المسلمين للهدية يعكس تماما رفضهم ليس فقط للهدية ولكن أيضا رفضا لأنفسنا ولما جاء في الآية نفسها عندما أعيد تقديمه لنا بشكل يجعلنا نتفكر في عظمة الكنز الذي بين أيدينا. هذا الذخر الذي أوصل صدى نبي عربي نادى بأن الناس سواسية كأسنان المشط إلى أقاصي آسيا في أندونيسيا وماليزيا، ليقدم نداءا عالميا إنسانيا بوحدة البشرية.
في عصر يتطلب منا أن نكتب "حلال" على الماء فلن يكون من الغريب أن تصير آية قرآنية عظيمة "حراما".