هذا الكلام كتب يوم كرمت مراكش السي محمد بسطاوي منذ مايفوق السنتين. خرج لوحده، وظل السي محمد يبحث عن كاتبه طيلة المهرجان. حين التقينا قال لي “شكرا”، قلت له “الشكر لك ياهذا”، وافترقنا. بقيت تجمعنا تحية عن بعد. تحية معجب بممثل كبير، لا تحية صحافي وفنان. بقيت تمغربيته تنادي في باستمرار عشق هذا البلد إلى أن أتت رسائل هذا الصباح القاسي القصيرة تحمل النعي. دارت بالدنيا الدنيا، وقال الرأس للرأس “ألم يحن أوان رحيل هذا الحزن عنا؟”.
في العين دمعة لامعنى لها لأنها لن تعيد عزيزا، وغصة في القلب أن المشهد لم يكن بالوفاء الكامل لكل من رحلوا لكي يقول لهم الحب حين الحياة، ثم إيمان وإحساس واقتناع أن الأمور ستستقيم في يوم ما.
استعادة للحظة المراكشية البهية يوم تكريم السي محمد، هاته الأسطر وعزاء وحيد أنه قرأها وأعجبته وقلنا له فيها وهو حي كل حبنا له، ثم الفيديو والصور، وبقية المتعلقات…
السي محمد يعرف أني أحبه. ويعرف أن المغاربة كلهم يحترمون فيه المسار الغني الذي كتبه على امتداد السنوات، وتعرف مراكش من خلال تكريم الرجل هذه السنة أنها تنجز الواجب اللابد منه، وأنها تنحني إجلالا في يوم ما للعبقرية التشخيصية المغربية إذ تحمل الإسم الدال: السي محمد بسطاوي .
له قصة كبرى مع تمغربيت في أبهى الملامح المكتوبة على تقاسيمها.
أرى السي محمد فأرى المغربي.
لاأستطيع الفكاك عن هذا الشعور. في الحركات، في طريقة الكلام، في الإقبال الكامل على الحياة، في الاختفاء خلف الأشياء، في القبض على تفاصيل العيش كلها ، في السير الحثيث في ظل الأمور، غير راغب في شيء إلا في :”تدواز السربيس بخير وعلى خير”.
متى بدأ بسطاوي التمثيل؟ منذ القديم، منذ السنوات الأولى لهذا الفن الصعب والعسير.
من لايعرف المهنة جيدا يقول عنها إنها مهنة سهلة للغاية. “فيها الماكياج وشوية ديال الضو وكتحفظ ولا كاع بلا ماتحفظ الدور، وصافي”. لكن من يعرفون مهنة الممثل جيدا، ومن يقدرونها حقا يعرفون أنها جهنم بكل اختصار.
هي المهنة الوحيدة في العالم التي ينبغي لك إن كنت صادقا فيها أن تنزع عنك مئات المرات في اليوم الواحد رداء شخصية لكي تلبس رداء شخصية أخرى، ويلزمك – مرة أخرى إذا كنت صادقا – أن تموت وتحيا فيها آلاف المرات، وأن لايرى منك الآخرون إلا الوجه الظاهر، الجميل، المشرق، المبتسم على الدوام. السي محمد هو خريبكة أيضا، وهو هذه المدن المغربية المختفية التي لانتذكرها إلا نادرا نحن المهووسون بالمركز وبمدنه العملاقة، والتي ننسى أنها هي التي أنجبت لنا كل عظمائنا في الختام.
السي محمد هو تلك اللحية الكثة المستعصية على النظام، هو الفوضوي حد تنظيم كل الأشياء في ذهنه، هو القادر على أن يحمل معه مشاهده والمتفرج معه إلى آخر المسافات وحدود المدى الأول والتالي للأمور، ثم يعود به إلى البدايات الأولى للتمثيل باعتباره فن كل هاته القدرة على الجمع بين كل المتناقضات. نادرا ماتكون لدينا نحن الصحافيون الفرصة لكي نقول شيئا جميلاعن فنان محلي. نفضل في أغلب الوقت أن نترصد الهفوات، أن نكتب بقسوة غير مبررة في كثير من الأحايين إلا برغبتنا في أن نرى شيئا جميلا على شاشتنا يشبهنا، ولإحساسنا بأن أهلنا قادرون على التميز، لكنهم يخطئون المسار. لذلك أغتنم فرصة تكريم مراكش لمحمد بسطاوي هذه السنة لكي أكسر قليلا القاعدة، ولكي أقول إن لدينا عباقرة في التشخيص- هذا واحد منهم بكل تأكيد – كان ممكنا لهم أن يبلغوا المبالغ الكبرى من التألق في المجال لو كان لدينا مجال أصلا. لكن لا يهم. مراكش تسدي لنا حسن الصنيع اليوم وهي تفعلها، وتذكرنا أنه من الممكن بين أجنبي وأجنبية نحتفي بهم باسم السينما التي لاتعترف بجنسية أن نعود إلى الدواخل الأصيلة والأصلية فينا لكي نستل منها رجلا مثل السي محمد بسطاوي يستحق كل الخير، ويستحق فعلا أن تقال له كلمة “شكرا المغربية” بهذه الطريقة وفي هذا الوقت بالتحديد.
المختار لغزيوي.