ثم سمعنا أن سائق القطار الذي دهس عبد الله باها رحمه الله لن يحاكم، وقرأنا آخر كلام قاله الراحل لزوجته قبل الخروج، واكتشفنا “حكمة” البعض وهم يخبروننا بأمور لايمكن أن يعلمها إنسي بل ولا حتى جني.
اكتشفنا مع هول فاجعة فقد رجل دولة ورجل سياسة من نوع الراحل عبد الله باها أن المشهد العام – خصوصا في المشهد المسكين المسمى مشهد الصحافة – قد فقد عقله، واتزانه، وقدرته على أي عقل حين الفواجع.
تماما مثلما يحدث لأسر المكلومين في المصائب والحوادث الجليلة وقع لهذا المشهد المسكين الذي لا بواب له ولا حسيب ولا رقيب، والكارثة هي أن الأمر يتعلق بروح رجل ارتقت إلى خالقها ولا تجوز عليها إلا الرحمة، لكن غربان السوء لا ترحم.
هذيان وتخيلات واستيهامات وهلوسات وأحاديث فضفاضة عن الشيء وعن نقيضه، بدءا ممن كتبوا بالبنط العريض في الصفحات الأولى لجرائدهم إن عبد الله باها قتل، مرورا إلى من لوح بطريقة جد رديئة وماكرة وسمجة بفرضية الانتحار، إلى الآخرين الذين استلوا من العدم شريطا فرنسا لمرور المهدي بنبركة ذات ستينيات من نفس المكان لكي يثبتوا به مؤامرة لا توجد إلا في مخيلاتهم.
ثم كانت حكاية الزايدي رحمه الله، والربط العجيب مع وفاته هناك، وقصة “لماذا ذهب إلى هناك بالتحديد وما الرسالة المراد إيصالها من خلال موته في نفس المكان؟”.
في لحظة من اللحظات كان ضروريا أن يتوقف السيل الرديء عن النزول، لكنه لم يمتلك فضلة العفة، لم يكتسب حياء القدرة على الصمت حين لا كلام. حين لا ضرورة لقول أي شيء لأن الأشياء قالت بعضها وكفى
لم يمتلك المشهد العام المتحدث الخاصية الأكبر التي ميزت عبد الله بها في حياته: الصمت والتفرج بابتسامة نصف ساخرة على الحياة.
لذلك ومع إحساسنا بالحزن لفاجعة إنسانية مثل هاته لا يمكنها إلا أن تدمرك إذا كنت إنسانا سويا وأن تترك في دواخلك ندبا حقيقيا حتى وإن لم تكن تعرف الرجل عن قرب، أحسسنا بحزن شبيه أو تقريبا أكبر ونحن نفهم للمرة الألف بد المليون أن مصابنا في هاته الملعونة المسماة صحافتنا هو حزن يجب أن يكون حقيقيا
إلى أين بهذا الهراء؟
لا يمتلك أحد الجواب، ولا يرغب أحد في الحقيقة في البحث عنه. الأمور بهاته السفالة تبدو جيدة لعديد الأطراف التي لا تريد جدية، ولا تبحث عن “معقول”، وتتمنى لو استفحلت الرداءة حتى قضت على أصغر ذرة من آخر مصداقية لم تعد لأي منا اليوم.
هل الهدف اليوم هو انقراض المهنة؟
لا أحد يتصور ذلك، لأنها انقرضت في هذا البلد أصلا منذ زمان، وأضحى من العيب أن تقول إنك صحافي، ومن المخجل أن تنافس من يتنافسون اليوم، ومن السقوط إلى الحضيض الأسفل أن تنتسب لهاته المسكينة المسماة صاحبة الجلالة لدينا
هل الهدف هو المزيد من الضحك من المهنة وإفراغها من أي جدية لم تعد تمتلكها؟ مرة أخرى وجب قولها: هذه المهمة أنجزت بسلام، ولم تعد تتطلب أي جهد إضافي من أجل إتقانها وتجويدها وجعلها تظهر على أكمل وجه أو على أسوئه والأمر سيان في كل الأحوال.
لا نعرف ولا نريد أن نعرف. فقط نكتفي اليوم بمعاينة الخسائر، بتعدادها بالوقوف عند تفاصيلها الصغيرة، تماما مثلما يحدث لك حين تتابع حادثة سير وتترصد التفاصيل منها، وتتسقط الأخبار فقط من أجل التعرف عليها وأنت تعرف أنك لا تستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ولا تستطيع أن تمنع الحادث، ولا أن تعيد ضحاياها إلى الحياة.
تماما مثل حادثة سير، هكذا أصبحت الحرفة تبدو للعديدين منا، غير قادرة على إثارة مشاعر أخرى غير مشاعر الحزن والرثاء.
الرحمة، ولا شيء آخر غير الرحمة، ذلك هو الأمر الذي ننتظره جميعا في هذا المجال…
رحم الله الرجل الهادئ المبتسم بجدية في وجه حياة كان يعرف أنها مجرد لعبة عبد الله بها. ورحم معه هذا المشهد العام المسكين حقا.
المختار لغزيوي