حميد زيد
لم يتحدث أي كتاب سماوي عن وجود رجال شرطة في الجنة، كما لم يتكلم أي دين عن وجود قمع في الفردوس، ولا عن شطط في استعمال السلطة ولا عن اعتداء على حقوق الإنسان.
كل ما في الجنة جميل وهادىء وعادل، وكل من سيذهب إليها سيكون سعيدا ومحترما ومتمتعا بشرب الخمر و مستلذا بما طاب له.
الجنة أيضا لا توجد فيها سجون ولا رجال درك ولا سلطة مستبدة.
والمغرب، كما هو معروف، ليس جنة في حقوق الإنسان.
إنه أسوأ من دول كثيرة وأفضل من دول كثيرة، لكنه ليس جنة.
ولهذا السبب توجد فيه جمعيات ومنظمات كثيرة تهتم بوضع حقوق الإنسان، وبه مؤسسة رسمية شغلها الشاغل هو هذا الموضوع.
لكن ما هو دور الكائن الحقوقي؟
هل دوره أن يقاطع المنتدى العالمي لحقوق الإنسان ويجلس ينتظر الجنة، أم يذهب إلى حيث ما يعتبره قامعا ومضيقا على الحريات ويفضحه في عقر داره.
في العالم كله يذهب الحقوقيون إلى حيث القمع وإلى حيث الظلم والاستبداد والاعتداءات، ولم نسمع يوما بمنظمة حقوقية تقاطع المكان الذي من المفروض أن تتواجد فيه وتفضحه وتنبه العالم إليه.
الحقوقيون مكانهم دائما هو الأرض التي لا تحترم فيها حقوق الإنسان، ومن العبث أن يوجد حقوقي في الجنة.
تواجده في الجنة ترف، ولن يحتاج إليه أحد هناك، بل دوره، هو في الآن وهنا، وفي التأثير وإسماع الصوت وفضح ما يجب أن يفضح.
عادةََالحقوقي لا يقاطع، أما في المغرب فهو استثناء، ويلعب دور السياسي.
إنه كائن ملتبس ويعيش فيه شخصان، واحد حقوقي والآخر سياسي، ودون أن يدري يفاجئه السياسي دائما، ويصدر بدله الموقف ويعتدي عليه.
وحين يجب أن تتحدث الجمعية يخرسها النهج ويتحدث باسمها ويقاطع، وحين يجب أن يتحدث النهج تسبقه الجمعية.
المشكل أن هذا الكائن الحقوقي يعيش فيه شخصان متناقضان أشد التناقض، ولا يتفقان على شيء، تماما مثل شخصية “الكونت المشطور” للكاتب الإيطالي إيتالو كالينو.
الشطر السياسي من جسده وروحه شمولي ووثوقي وقطعي ولا يؤمن بالديمقراطية ومع الاستبداد وسيطرة طبقة على باقي الطبقات، وضد ثقافة حقوق الإنسان، هذا الاختراع البورجوازي والليبرالي.
والشطر الحقوقي منه ليبرالي وبورجوازي يتعامل مع الدول الإمبريالية ومع الاتحاد الأوربي، ولا ينسق مع كوبا ولا كوريا الشمالية، التي يتقاسم معها الانتماء الإديولوجي، ويختلف معها لأنها منسجمة مع نفسها، ولا تؤمن بحقوق الإنسان ولا بالحريات، وتدعو إلى مجتمعات موجهة يتحكم فيها الحزب ويفرض عليها ما يجب أن تقوم به، ويفرض عليها العيش في “جنة” الاشتراكية والشيوعية، التي لا توجد فيها صحف ولا جمعيات ولا قنوات ولا أي شيء، إلا إذا كانت تابعة للسلطة وتؤكد مرغمة أنها تعيش في نعيم الجنة.
نصف الكونت المشطور يتجول في المغرب سياسيا أسير مغرب السبعينيات، وينظر إلى الدولة نظرة مانوية، هو الخير المطلق وهي الشر المطلق.
والنصف الثاني يعيش ليبراليا ذا نزعة حقوقية تحكمها أخلاق ويقينيات هذا الكائن قبل أن يشطر ويصبح اثنين، يواجهان بعضهما البعض.
في الندوة الصحفية التي نظمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان يوم أمس بالدار البيضاء، قال ادريس اليزمي”الإجماع موت”، في جواب غير مباشر على الذين قرروا مقاطعة المنتدى، أي أنه إذا اتفق الجميع، فهذا يعني أن شيئا ما ليس على ما يرام، وإذا رأى شخص أننا نعيش في الجنة فهو مخطىء، وإذا رأت جهة ما أن المغرب جحيم في جحيم فهي مخطئة.
سينظم المنتدى في أيام قليلة وسينفض شمل المشاركين بعد ذلك، وسيعود الجميع من مراكش، ولن يتغير المغرب في ظرف ثلاثة أيام، لكن ما سنذكره من هذا الموعد أن جمعيات حقوقية قاطعت منتدى حقوقيا، وقررت أن لا تشارك في أي شيء، حتى تكف وزارة الداخلية عن مضايقاتها، وحتى يصبح المغرب جنة.
ألم يكن أفضل للجمعية ولبقية المقاطعين أن يفضحوا المخزن ومؤسسته الحقوقية المتواطئة في منتداها العالمي، وأمام أنظار الأغيار المشاركين، والآتين من كل أنحاء العالم.
ألم يكن أفضل كشف القمع وفضح اعتداءات النظام أمام الأجانب حتى يعرفوا حقيقة ادعاءاتنا
لكن بطل إيتالو كالفينو الكونت المشطور له رأي آخر
المغرب في نظره إما أبيض وإما أسود
المغرب مقسوم إلى شر وخير
ويقول كائن الجمعية المشطور: لن نقبل العيش إلا في الجنة
ويرد عليه نصفه الآخر: الجنة بعيدة ومن الأفضل أن نقاطع، فتقاطع الجمعية بإجماع أعضائها.
وأثناء ذلك ترد عليهم مؤسسة رسمية: الإجماع موت
مؤسسة رسمية تبدو أكثر تقدما في فهمها للديمقراطية ولحقوق الإنسان، ولا تنظر إلى من يحتج عليها ومن يقاطعها كعدو، بل تخاف من الإجماع، ولا ترى كل شيء أبيض أو أسود، بل هناك ألوان أخرى، أما الجنة فليس الآن، وكثيرون ناضلوا من أجلها وضحوا، ليجدوا أنفسهم قد صنعوا جحيما.
لقد وصلت الرسالة، لكنها رسالة النهج وليس الجمعية الحقوقية، فلا أحد يوما سمع بجمعية حقوقية تقاطع، لأن الحقوقيين يذهبون، حسب ما هو معروف، إلى القمع ويفضحونه، وينبهون العالم ويحذرون منه، ولا يهربون منه.
لكن الكونت المشطور له رأي آخر
رغما عنه ودون أن يشعر لا يرى حلا إلا في المقاطعة
وكل ذلك بعد تفكير ومشاورات وبحث في كل الخيارات الممكنة وإجماع في نهاية المطاف.
نعم مائة في المائة
حتى القضاء التام على النظام القمعي المخزني الرجعي
وحتى يسود العدل
ويمحي الاختلاف
ويتشابه البشر
وتظهر الجنة في أرض المغرب
مثل كوبا تماما
بل أحسن
أحسن بكثير
جنة تشبه كوريا الشمالية
لا أحزاب فيها
ولا جمعيات
ولا حقوق إنسان
بل إجماع
وتشابه
وغياب للنسبية
ومقاطعة للعالم كله
العالم الشرير
الذي يرفض العيش في الجنة
ويخاف منها.