الجزائر الخرائطية:
أحدثُ مؤشر على أن العقل الانفصالي الصحراوي/المغربي يواصل عبور حقل الألغام ،العسكرية والسياسية،هو تهديده المغرب-وحتى المجتمع الدولي- بالعودة إلى حمل السلاح والاقتتال؛أي إلى أجواء ماقبل مستهل الثمانينيات؛حيث حسم الجيش الملكي الأمر عسكريا ،وحصن أمن صحرائه ببناء الجدران الستة؛وتفعيل خطة "مارشال" تنموية شاملة للأقاليم الجنوبية،قضت على كل أحلام الانفصاليين في تأسيس حواضن شعبية داخلية، تبث أطروحاتها لتحويل الصحراء الى جسد بدون روح.جسد بين يدي المغرب ،وروح هناك حيث تُدبر الأمور بليل، لزيادة توسيع خريطة الجزائر-على حساب المملكة - وتكثير سوادها.
رغم كل ما تدلي به الجزائر الرسمية – وهي عسكرية الهوى والهواء- من "تعفف" فليس وراء الأكمة غير هذه الحقيقة المرة التي يعرفها المجتمع الدولي ،ويسكت عنها،نفاقا ليس الا. إن من يحتمي بشعار الأدغال الإفريقية - مرجعية الحدود الموروثة عن الاستعمار- ليواصل احتلال الصحراء الشرقية المغربية ؛سيجد من باب أولى التمترس خلف المبدأ ألأممي: " حق الشعوب في تقرير مصيرها"،ليواصل نشاطه الخرائطي.
منذ مستهل الثمانينيات الى اليوم جرت مياه كثيرة تحت الجسر :انهار الاتحاد السوفييتي ،سقط جدار برلين،انتهت الحرب الباردة،ظهرت تكتلات سياسية و قوى اقتصادية جديدة،اندلعت الحرب العالمية ضد الإرهاب،دخل العالم العربي مخاضه الكبير،ألقى الأوروبيون القبض على مذنب في السماء.. كل هذا لا يغري جبهة البوليساريو بشيء؛ولو بقراءة ابتدائية تمكنها من بلورة تصور للحل ،ذي جدية ومصداقية،يخرجها من مآزقها ،ويفتح لها فتحا ضمن الوطن الأصلي الذي لا يتصور فيه مواصلة تزكية لصوص الخرائط.
لا أقول هنا بالغباء السياسي ،لأن كوادر الجبهة ،الذين التحقوا بالوطن، أبانوا عن مقدرات فكرية وسياسية مهمة،كما برهنوا على أن عشرات السنين من "فورمتاج" المخابرات العسكرية الجزائرية،لم تأت على كل الخلايا الوطنية في قرصهم الصلب.
يبقى أن التفسير يكمن ،حسب رأيي المتواضع،في كون جبهة البوليساريو لم تنهزم أمام الجيش الملكي ،في معارك الصحراء؛وإنما أمام الجيش الجزائري الذي قادها أسيرة إلى "غوانتنامو" الصحراء ،هناك في لحمادة ،حيث تشرق الشمس كل يوم ،على أكبر سجن عالمي فوق الأرض. سجن لا يقل فضاعة عن مجمعات النازية في أوروبا، التي احترق فيها اليهود ،بجريرة كونهم يهودا لا غير. ان الأسرى المغاربة الذين عادوا الى الوطن – من تندوف- وقد استمعت الى بعضهم ،لا يعرفون مُجمع "أوشويتز" النازي ؛لكنهم حينما يحدثونك عن ظروف أسرهم ،تُلح عليك هذه الفضيحة البشرية الأوروبية ،بكل فضاعاتها. لم يكن السجان الصحراوي،في تندوف، يتميز كثيرا عن السجين،كلنا كنا أسرى؛يقول أحد هؤلاء.
من هنا كل مآزق العقل السياسي الانفصالي،و بصفة خاصة تهيبه –وليس عجزه- من القراءة التفصيلية البناءة لمشروع الحكم الذاتي الذي وضعه المغرب سنة 2007 بين يدي الأمم المتحدة ،والقوى العالمية الكبرى؛كإجابة ذات ثقل سياسي،أو قل بأعالي وأسافل،على خطة "جيمس بيكر"- 2003- التي تبدأ مغرية بالحكم الذاتي،لتنقلب عليه ،دافعة المنطقة صوب مجهول ،ترغب فيه الجزائر الخرائطية ،كما أسلفت.
مأزق الحكم الذاتي:
لم يدبره المغرب بليل ،كما تفعل الجزائر الرسمية ،إذ تجند لخرائطيتها حتى أفاعي الصحراء وثعالبها؛بل أسسه على مرجعية تاريخية موثقة بقوة؛فلم تعن بيعة الصحراويين للملوك المغاربة ،مع الاحتفاظ بتدبير أمورهم العامة،غير ما يعنيه مفهوم السيادة المغربية في مشروع الحكم الذاتي.(تتحدث الكتابات الكولونيالية عن كون الشيخ ماء العينين كان يستقبل في مراكش استقبال الملوك).
ويقدم المشروع بين يديه –عربونا على المصداقية ،وصفاء السريرة- أربعين عاما من الإنفاق التنموي المتكامل ؛لجعل الصحراء تسرع الخطى في معراجها الحضاري صوب الوطن؛وقد أخَّرتْنا قليلا ،لكننا ننعم برفقة إخواننا في الوطن.أنعم بها من تضحية. وما دمنا نصدق وثائق "ويكيليكس" أكثر مما نصدق المخزن المغربي،فلنستمع إليها تشهد:
"بأنّ المغرب ينفق ما يقارب الـ2,7 مليار دولار سنويا لتنمية مختلف ربوع الصحراء، رغما عن عدم تجاوز تعداد سكانها لـ 385 ألف نسمة.. وقالت ذات |الوثيقة|التقرير" الصادرة عن السفير الأمريكي بالرباط بتاريخ 17 غشت 2008، والموجّهة صوب وزارة الخارجية بواشنطن، بأنّ معدّل الإنفاق المغربي على مشاريع التنمية والدعم الاجتماعي بالصحراء تفوق مستوى الإنفاق المماثل ضمن باقي جهات المملكة.. وأنّ تطور الاقتصاد المغربي قد مكّن خزينة الدولة من تحمل هذا الإنفاق المرتفع مقارنة بالماضي"
وتواصل الوثائق شهادتها السرية ،التي لم يملها أحد على الدبلوماسيين الأمريكيين:
" ان الإنفاق الرسمي على التنمية بالصحراء قد أفلح، رغم بعض الاختلاسات المسجلة في هذا الإطار، في تحقيق مستويات مرتفعة من التطور العمراني.. وان هذا الاستثمار هو الذي جعل مدينة من حجم العيون يغيب عنها السكن الصفيحي، قبل أن تضيف: "المؤشرات الاجتماعية ومستوى الاستفادة من التعليم والخدمات الاجتماعية يعلو بالصحراء عن متوسط المعدّلات المحققة بالمغرب"". -.
أول ما يومض في عقلنا ،ونحن نُحكِّم ما تراه العين ،وليس مجرد وثائق سرية مهربة،هو كون من يبادر الى تنمية أقاليمه ،بسخاء كبير –رغم الحاجة- لا يمكنه أن يكون الا صادقا ،وهو يطلب من سكان الصحراء – في إطار الحكم الذاتي- مواصلة المسار ؛وإذا أمكن بخطى أسرع. ومن يتمسك بسيادته على صحرائه ،وهو يدرك أن عائداتها لا تفي بمتطلبات مواصلة تنميتها – الآن- الا بكسر هزيل لا يتجاوز السبع؛يضع في حسابه أن الوطن سيواصل تحمل مسؤولياته الاقتصادية ؛كما هو الأمر بالنسبة لكل جهات البلاد.
هذا مأزق اقتصادي حقيقي ،يُبَكِّت الانفصاليين ويُباهِلُهم ،ويخجلون حتى من تكذيبه .من يستطيع إخفاء تراكم تنموي ومعماري،بقيمة 120 مليار دولار ،وأكثر. من يحفر الحفرة لإخفاء الصومعة؟ من يعلق الجرس في عنق الجزائر الرسمية؟
في سنة 2009 كان الشغل الشاغل للانفصاليين إفشال الانتخابات الجماعية في الأقاليم الصحراوية؛بثني المواطنين عن أداء واجبهم الديمقراطي،حتى تنعم عليهم الجمهورية بانتخابات لا عين رأت ولا أذن سمعت.
كانت الحقيقة مأزقا حقيقيا ،مرة أخرى،لأن أغلبية المسجلين في اللوائح الانتخابية ،قصدوا صناديق الاقتراع ،بكل العفوية والنبل المعروفين في ثقافة الصحراء.عشنا في الشمال انتخابات جماعية أما سكان الصحراء فهبوا الى استفتاء حقيقي ؛انتصر فيه الفكر الوحدوي الصحراوي.
تقول إحدى وثائق ويكيليكس :
إن"عددا كبيرا من المقابلات والمصادر المستقلة تعتبر أن الهدف الرئيسي لغالبية الصحراويين يتمثل في المزيد من الحكم الذاتي بدل تقرير المصير"، مبرزة أن ما يدل على ذلك هو معدل المشاركة "المعتبر" الذي تم تسجيله خلال الانتخابات الجماعية الأخيرة. ونقلت البرقية الدبلوماسية التي صيغت في غشت 2009 أن ناشطا مواليا للبوليساريو "أعرب لنا عن قناعته بأن غالبية الناخبين سيختارون الحكم الذاتي، إذا تم تنظيم انتخابات حرة اليوم".
وتتلاحق المآزق ،وهي غير مستغربة في حقل كله ألغام،ويستوقفني منها ،كرجل تربية وقلم، المأزق التربوي:
حينما يتخلى مشروع الحكم الذاتي ،لساكنة الصحراء عن الحقل التربوي الخطير والخطير،ليَكَل لها أمر السياسة التربوية التي تريد،بما فيها بناء البرامج والمناهج ،وتأليف الكتب المدرسية؛فهذا يعني – بحسن نية- اجتماع كل الفضائل ؛وبسوء نية امتلاك ناصية تقرير مصير الصحراء مستقبلا ،من خلال حرية تكوين المواطن ،وفق الإيديولوجية التي تريد. لماذا تفضل لأبنائها المنفى الكوبي الشيوعي ،ولا تجرؤ –وليس لا تريد- على تربيتهم في وطنهم،بالكيفية التي ترضاها؟
لولا خطورة الجانب التربوي لما سَيَّرت فرنسا الاستعمارية فيالق مدرسيها في ركاب جيوشها.إذا امتلكْت المدرسة ،فلن ينازعك أحد في الوطن. كانت النازية تحتاط كثيرا ،حينما يتعلق الأمر بتوظيف رجال التعليم.لم يكن متاحا للألمان ولوج هذه الوظيفة إلا بعد النجاح في امتحانات "الغيستابو" السرية.لقد ظل أحدهم يُخفي يهوديته بكل دهاء،الى أن ارتكب خطأ التقدم لوظيفة معلم.
وتتلاحق المآزق التي حبكها مشروع الحكم الذاتي ،ليبرهن أن المشكل ليس في الانفصاليين ؛إذْ لا هِرَّ يهجر دار الزفاف ،كما يقول المغاربة؛وإنما في الجزائر العسكرية التي آلت على نفسها أن تكمل الخرائطية الاستعمارية الفرنسية.
لقد استبدت القيادات العسكرية بالجبهة ،وسلبت منها كل إرادة ،وكل استعداد للتجاوب مع ساكنة المخيمات ؛وقد ضاقوا ذرعا بشظف العيش ،في معتقلات لا احد يردد فيها مفردات الحرب الباردة. نحن اليوم أمام جدار برلين آخر،يفصل بين الصحراويين الوحدويين ،المُمَتعين حتى النخاع ،والصحراويين الذي ألبسوا أسمال الانفصال ،وهم لها كارهون.
لبن بقهوة ولبن بالتراب ؛الى أن ينتبه المجتمع الدولي ،والأمم المتحدة ،الى أن قضية الصحراء زيف في زيف.
أو قل هي قضية مشروع استعماري جزائري ،وليس قضية تصفية استعمار.
وكم يصدمني ،في الختام ،أن أرسم الكاريكاتور الآتي: صحراويون ،مغاربة أبا عن جد، فُرض عليهم أن يقولوا:نحن نعرف ألا تقرير للمصير خارج الاستعمار الجزائري المُمَوَّهِ؛فمن يفك أسرنا لنتمتع بالحكم الذاتي داخل الوطن الصريح؟
أي مأزق هذا؟ اصبروا وصابروا ،إن الدهر قُلَّبُ ،وللوطن صولات.