يمكن، وبدون مبالغة، اعتبار الخطاب الملكي الأخير بمناسبة ذكرى المسيرة، خطابا مفصليا بخصوص مستقبل قضية الصحراء التي كلفت المغرب طوال عقود ما لا حصر له من العرق والدماء والأموال.
فالملك، ولأول مرة، يتوجه مباشرة بخطابه نحو الأغلبية الصامتة في الصحراء، تلك الأغلبية التي يقرصن بعض الانتهازيين المنتمين إلى الأقلية، مشروعية الحديث باسمها أمام مؤسسات الدولة وأمام الهيئات الأجنبية. وهم من سماهم الملك بالانتهازيين الذين يضعون رجلا في الوطن عندما تكون لهم استفادة، ويضعونها مع العدو عندما تنتفي هذه الاستفادة.
هذه الأغلبية الصحراوية التي تجد نفسها بين أزمة وأخرى رهينة أطماع وطموحات أقلية مفترسة، لها مواقف مداهنة في الظاهر وارتباطات مشبوهة في السر مع العدو، حان الوقت لكي تفهم أن مصير تنمية الأقاليم الصحراوية يوجد بين يديها، وأن «العصابة» التي وضعت الأغلبية رهن إشارة أطماعها ومصالحها قد انكشف وجهها أخيرا. فالجميع، في الصحراء كما في الداخل، يعرف أسماء هؤلاء «الأباطرة» الذين اغتنوا بفضل ريع الصحراء وحولوا أموال الإعانات وعائدات الرخص نحو حساباتهم البنكية بلاس بالماس وغيرها من الجنات الضريبية.
إن الضمانة الأساسية لحسم قضية الصحراء لصالح المغرب هي تقوية الجبهة الداخلية، وعندما نتحدث عن تقوية الجبهة الداخلية، فأول شيء يجب أن ننتبه إليه هو خطورة ما يسمى انفصاليي الداخل، هؤلاء الذين يحملون بطاقة التعريف الوطنية ويدرسون في جامعات مغربية ويتقاضون منحا من خزينة الدولة ويستعملون النقل العمومي المغربي، ومع ذلك تجدهم مستعدين لإحراق العلم المغربي في أول مناسبة ورفع علم بوليساريو مكانه.
لقد أظهرت الأيام أن أسوأ شيء يمكن أن تفعله دولة ما، هو أن تقايض انتماء مواطنين إليها ببطاقات التموين والرواتب الشهرية التي لا تتطلب بذل أي مجهود، لأنها تخلق بسبب ذلك شعبا من العاجزين والكسالى والمتواكلين الذين يكرهون العمل ويعتبرون الريع حقا من حقوق المواطنة.
لذلك فهذا النموذج التنموي أصبح متجاوزا بعدما أظهر عيوبه وخطورته، ولذلك فهذه أول مرة يعلن فيها الملك بوضوح القطيعة مع التدبير السابق لملف التنمية في الأقاليم الصحراوية، وهو التدبير الذي أنتج طيلة السنوات الماضية شرذمة من المنتفعين والانتهازيين الذين مصوا دماء خزينة الدولة، بدعوى أنهم يمثلون الصحراويين، في حين أنهم لا يمثلون سوى أنفسهم ومصالحهم الضيقة.
ولأول مرة، وبوضوح كامل، أشار الملك إلى مسؤولية الجزائر الأساسية في استدامة نزاع الصحراء لكل هذه السنين. ولعل وصف المحاباة الذي أعطاه الملك للتعامل الذي تحظى به الجزائر من طرف القوى الدولية المتدخلة في ملف الصحراء، ينطبق تماما على وضع الجزائر التي يجد قادتها فيه المخرج الأنسب للتملص من مسؤوليتهم في حل ملف الصحراء.
فالمنظمات الأمريكية الحقوقية تحاسب المغرب أمميا على أفعال يجرمها القانون يقوم بها انفصاليون في الصحراء، بينما تغض الطرف عن جرائم ضد الإنسانية تحدث في تندوف وبعض المحافظات الجزائرية.
ولعل الوقت حان لكي يفهم بعض المغاربة الذين يقدمون خدمات مدفوعة الأجر لبعض هذه المنظمات، من أجل أن تطعن المغرب في الظهر من خلال تقاريرها ومذكراتها المرفوعة إلى الأمم المتحدة، أن ما يقومون به يدخل في باب الخيانة.
وهي خيانة لا تفضح فقط أصحابها بل تفضح أيضا النفاق الأوربي والأمريكي بالخصوص، عندما نسمعهم يتغزلون في النموذج المغربي المتميز الذي يضمن الاستقرار في المنطقة بوصفه شريكا فعالا في محاربة التطرف والإرهاب، وفي الوقت نفسه يصطفون إلى جانب الجزائر عندما يتعلق الأمر باتخاذ مواقف واضحة بخصوص ملف الصحراء.
إنه لمن المدهش أن يعلن الضحاك، السكرتير العام للحكومة، أن الجمعيات المغربية تلقت من الخارج دعما وصل إلى مليار و252 مليون درهم خلال السنة الأخيرة. فهل كل هذا الدعم يعطى فقط من أجل سواد عيون هذه الجمعيات، أم أنه مشروط بأجندات وأهداف مرسومة بوضوح؟
طبعا فنحن لا نشكك في وطنية كل الجمعيات التي تتلقى الدعم المالي من الخارج، ففيها جمعيات مواطنة تخدم مصلحة البلد أولا وأخيرا، لكن هناك أيضا جمعيات تشتغل على تفتيت دعائم الاستقرار وزرع بذور التفرقة والانفصال، تمهيدا لتنزيل المشروع الخارجي الذي يهدف إلى تقسيم البلاد حسب الأعراق واللغات، ولم لا الديانات والمعتقدات، طالما أن هناك من يدفع في اتجاه الترخيص لأقلية مغاربة مسيحيين في إطار حرية التدين.
ولعل الخيط الناظم الذي يجمع بين هذا الصنف من الجمعيات والمنظمات، هو تحطيم قوانين ومبادئ مستمدة من الشريعة الإسلامية. فهناك دعم أجنبي للجمعيات التي تناضل من أجل المساواة في الإرث بين الذكور والإناث، وهناك دعم للجمعيات التي تناضل من أجل الحقوق الفردية، وخصوصا حقوق الشواذ في التنظيم والاعتراف بهم، وهناك جمعيات تناضل من أجل إلغاء عقوبة الإعدام، إلى غير ذلك من الميزانيات المرصودة لمحو الطابع الإسلامي عن كل القوانين في أفق تغريبها وجعلها نسخة طبق الأصل لقوانين الغرب.
وغير خاف أن من يناضل من أجل إضعاف الحضور الديني على مستوى القوانين، فإنما يطمح في النهاية إلى إضعاف المؤسسة الملكية، بحكم أنها المؤسسة التي تشرف على الشأن الديني وتستمد منه شرعية إمارة المؤمنين، وتضمن وحدة المغرب واستقراره.
وعندما يقول الملك مخاطبا المنتظم الدولي، إنه بدون تحميل المسؤولية للجزائر، الطرف الرئيسي في هذا النزاع، لن يكون هناك حل، وبدون منظور مسؤول للواقع الأمني المتوتر بالمنطقة، لن يكون هناك استقرار، فإن الملك يعيد وضع ملف الصحراء في سياقه التاريخي الحقيقي. وهنا نتذكر ما قاله المرحوم الحسن الثاني في إحدى خطبه:
«فعلا فإن الرئيس الجزائري هواري بومدين رحمه الله قال إن الجزائر لم ولن تكون لها أطماع في الصحراء، لكن عندما نبحث عن مكان تواجد بوليساريو نكتشف أن عنوان إقامته يوجد في الجزائر. وعندما نبحث عن وسائل عيشه نكتشف أن هذه الوسائل توجد في مخازن الجزائر، وكذلك الشأن بالنسبة لتمويله الذي يخرج من الخزينة الجزائرية».
هذا يعني أن الحسن الثاني كان يعرف جيدا أن المشكل في الصحراء هو مشكلة جزائرية أساسا. وحل عقدتها يوجد في قصر المرادية وليس تحت خيام تندوف. وهذا ما يعيد التأكيد عليه الملك اليوم، مضيفا إليه شرطين ضروريين لا محيد عنهما لإيجاد حل يحفظ ماء وجه الجميع، وهما عدم منح المينورسو صلاحية مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء، وعدم تغيير طبيعة النزاع وتقديمه على أنه مسألة تصفية الاستعمار.
وكل من يحرص على متابعة تطورات الشأن الجزائري حيال المغرب، سيلاحظ أن الحملة الإعلامية والدبلوماسية ضد المغرب بدأت مع تعيين وزير الخارجية الجزائري الجديد رمطان العمامرة، والذي جاء خصيصا لتسميم علاقة المغرب بالخارج سعيا من الجزائر إلى أخذ مكان السعودية في المنطقة العربية ولعب الدور الاستراتيجي الذي ظلت تحلم به الخارجية الجزائرية.
لذلك فالعسكر الجزائري يرى أن الطريق أصبحت سالكة نحو موقع الريادة إفريقيا وعربيا، ولذلك يخصصون ميزانيات خيالية للتسلح للظفر بلقب أقوى دولة إفريقية من ناحية التسليح.
والواقع أن طبول الحرب التي يصل صداها من قلب قصر المرادية، لم تهدأ يوما ضد المغرب. لكنها في الآونة الأخيرة مع وزير الخارجية الجزائري الذي تحيي الصحافة الجزائرية خرجاته ضد المغرب على عكس الوزير السابق الذي كان متهما بمحاباة المغرب، وصلت مستوى غير مقبول بعدما تم إطلاق الرصاص على مواطن مغربي من طرف حرس الحدود الجزائري وقيادة حرب إلكترونية ضد مؤسسات المغرب الاستراتيجية، فكان ضروريا معه استدعاء السفير، وهو قرار ينذر بإمكانية قطع العلاقات مع الجزائر وإغلاق التمثيليات الدبلوماسية.
واليوم يتضح أكثر أن «الانقلاب الأبيض» الذي حدث في الجزائر، لم يكن وراءه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وإنما جناح الجنرال كايد صالح المتشدد ضد المغرب، وخصوصا في ما يتعلق بوحدته الترابية.
ويتضح أكثر أن المستهدف من هذا «الانقلاب الأبيض» كان هو المغرب. وقد بدأت تظهر إلى العلن الأسباب الحقيقية التي جعلت الجناح المتشدد ضد المغرب يستعيد زمام السلطة في قصر المرادية.
لقد أعلنت الدولة الجزائرية الحرب الإلكترونية على المغرب، وهي حرب يعرف الجميع أنها أخطر وأكثر تكلفة من الحروب التقليدية للجيوش النظامية، فجنرالاتها يجلسون وراء الحواسيب ويلحقون الأذى بمصالح خصومهم الاستراتيجية، وهي حرب لن يدوم صبر المغرب عليها طويلا، فقد صبر المغرب ما يكفي وحان الوقت لكي يرد الصاع، بالشرعية والاحتكام إلى القانون الدولي المحايد وغير الخاضع للإملاءات والشروط القبلية.
رشيد نيني.