شكل الاستحقاق التشريعي التونسي الأخير (26 – 10 – 2014 ) حدثا بالغ الأهمية ، بالنسبة للمهتمين بحركية الواقع العربي الراهن ، و بمخرجات الربيع العربي المجهض ، و ذلك لأن تونس الخضراء كانت فضاء انطلاق الشرارة الأولى للانتفاضات العربية ، الداعية إلى إسقاط العديد من الأنظمة العربية المتوغلة في الاستبداد و الفساد ، و إقامة أنساق سياسية حديثة في مستوى منطق القرن الواحد و العشرين ، تكفل للمواطنين مناخا من الحرية و العدالة و الكرامة ، بعد عقود من القمع و الظلم و المهانة .. و يعود اهتمام المراقبين العرب و الأجانب بهذه الانتخابات البرلمانية أيضا بسبب الثورات المضادة و "صمود" رموز الدولة العميقة في كل أقطار الربيع العربي و خريفه ، و تخوف العالم "الحر" من انتقال "عدوى" الديموقراطية إلى العالم العربي ، لما لهذا المنحى من تهديد للمصالح الإستراتيجية الغربية !
انتهى هذا الاستحقاق كما هو معلوم بتراجع نسبي لحزب حركة النهضة الإسلامي المعتدل ، و فوز نسبي ل"نداء تونس" العلماني ، أما باقي الأحزاب الأخرى "اليسارية و اليمينية" فقد ذاقت كما كان منتظرا فشلا دراماتيكيا . و قد (سهر القوم و اختصموا ) و هم "يحللون" الأرقام و النسب المئوية ، و يستقرؤون واقع و مستقبل ربيع تونس ، و مقدرة هذا البلد على الانتقال السلس إلى نادي الديمقراطيات العصرية . و الواقع أننا أمام تجربة سياسية عربية ناجحة نسبيا ، حيث تمكنت مكونات المشهد السياسي التونسي ، و بتضحيات مؤلمة من تجنيب الوطن المصير الكارثي لبعض الأقطار "الربيعية" ، كما أن الجيش الوطني حافظ و إلى آخر نفس على التزامه بالحياد الإيجابي ، و عدم التدخل في أحداث لا يمكن أن تعالج إلا في إطار حوار سياسي مدني شامل . بيد أن أروع ما في هذا الإنجاز الجماعي الحصيف هو الأداء المحوري لحركة النهضة بزعامة الإسلامي المتنور رشيد الغنوشي ، الذي أدرك بحسه الوطني و انفتاحه على التجارب الفكرية و السياسية العربية و العالمية ، أن التنازل الشجاع و المسؤول لشركائه في عملية البناء المجتمعي قبل و بعد الاستحقاق التشريعي بفعل الضغوط الداخلية و الدولية ، بإمكانه أن يعرج بالوطن إلى بر الأمان ! و لعل اعتراف حزب حركة النهضة بالهزيمة و تهنئة منافسه "نداء تونس" ، و إعلانه عن استعداده للمشاركة في حكومة وحدة وطنية ، دليل آخر على أن أحزاب الإسلام السياسي المعتدل قد لا تسعى إلى التفرد بالحكم و الهيمنة على مقاليد الدولة ، كما يتهمها بعض خصومها من "اليبيراليين" !
نعم إن الأحزاب الإسلامية الديمقراطية ترتكب أخطاء بالغة السذاجة، جراء غياب التجربة و الاحتكاك بالملفات المفصلية الداخلية و الدولية.. غير أن هذا لا يستدعي انقلابا على الإرادة الشعبية و الاستحواذ على السلطة، بعيدا عن المنافسة السياسية الشريفة و النزيهة. و السؤال المطروح هو : هل سيقبل الحزب الفائز بأغلبية المقاعد البرلمانية "نداء تونس" ، بتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم أهم التيارات الوطنية الإسلامية و العلمانية الفاعلة ، كي تتبوأ تونس المكانة التي تستحقها بين الأمم المحترمة ، أم أنه سيختار العمل داخل "العائلة الديمقراطية" التي تضم فسيفساء من الهيئات الحزبية المتناهية في الصغر ؟ الكرة في هذه "اللحظة التاريخية" في مرمى التيار العلماني التونسي . أملنا كبير في أن يضع عقلاء تونس الشقيقة يدهم على الاختيار الأرقى و الأجدى ، لبناء تجربة سياسية ديمقراطية تشرق من غرب العالم العربي الحزين !
الصادق بنعلال – كاتب من المغرب