في تونس، ليس أبلغ من مقولة [الانتقال من الثورة إلى التناوب]، كتوصيف مطابق لانتصار الديمقراطية في التباسات مرحلة ما بعد 2011.
حركة النهضة الإسلامية، الحزب الأكثر تنظيماً وهيكلةً في تونس، يخرجُ من صناديق الاقتراع مُنْهكاً بآثار طلب اجتماعيٍ مُنفَجرٍ، ووضعية اقتصاديةٍ خانقة. النهضة التي كان عليها أن تحمل كل ثِقل وتعقد المرحلة الانتقالية، وأن تُدبّر الأوهام التي تخلقها عادة الثورات في أذهان النّاس؛ الذين يريدون أن يقطفوا ثمارها فوراً في السّكن والشغل والعيش الكريم، وأن تدبر في سِجِلّ آخر التوافقات الضرورية بين شركاء الثورة فيما بينهم، وبين شركاء الثورة وامتدادات العهد الماضي.
وحزب نداء تونس، التنظيم الجديد، ذو الاتجاه العلماني، المُدافع عن الحداثة، الذي يجمع بين الليبراليين واليساريين، إضافة إلى حقوقيين ورموز من مرحلة ما قبل الثورة، يخلق المفاجأة ويفوز في الاستحقاق التشريعي، مُستفيداً من تصويت عقابيٍ مُزدوج، على الترويكا الحاكمة، بسبب العجز على خلخلة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ثم على النهضة خوفاً من المَساس بنموذج مجتمعي تونسي مُنفتح ومبني على الحريات الشخصية واحترام حقوق المرأة، نموذج تجسده الفئات الأساسية من الطبقة الوسطى، كنمط حياة غير قابلٍ للمُساومة.
بين الفشل في تصدر الإسلاميين للنتائج وبين الانتصار البَيّن للعلمانيين، وقع ما يقع في الديمقراطيات النّاضجة؛ الفريق الأول اعترف بالخسارة وهنأ الفائزين، والفريق الثاني قَدّر هول المسؤولية مُبدياً حاجة البلاد إلى جميع مكوناتها، والأهم أن كلا الفريقين أشادا بنزاهة الاقتراع، وعبّرا عن انتصار كُل من تونس والديمقراطية.
مغربياً، وكالعادة، نشطت في أوساط الصحافة والأحزاب، رياضة المقارنات السّهلة، والإسقاطات الجاهزة، كما وقع تماماً تفاعلاً مع الحالة المصرية، عندما توزع المغاربة؛ سياسيون وإعلاميون وجامعيون، طواعية بين ساحتي: رابعة العدوية أو ميدان التحرير.
الواقع أن ثمة فروقات قد لا تبدو واضحة من شدة الحماسة الإيديولوجية، أو تحت تأثير الرغبة في استيراد خلاصات درس تونسي كحُجَجٍ مُتقاطعة في صراعات سياسية مغربية.
أولى نقاط الاختلاف هذه، تتعلق بالهندسة الدستورية والهامش الذي تتركه للفاعل السياسي الحكومي، والذي قد يحمل مرجعية إسلامية، إذ لا وجه للمقارنة بتاتاً بين الدستور التونسي الذي يمنح الحكومة صلاحيات واسعة جداً، وبين الدستور المغربي، والذي رغم ما منحه للحكومة من اختصاصات، فانه أبقى على دور استراتيجي للمؤسسة الملكية، خاصة فيما يتعلق بالشأن الديني، حيث يجمع الملك بين صفتي رئيس الدولة وأمير المؤمنين، وهذا يعنى أساساً أن تخوف جزء من النّخب التونسية من موجة «الأسلمة» من فوق، أمرٌ يصعب تصوره في المغرب، بالحِدّة نفسها على الأقل.
النقطة الثانية، تتعلق بطبيعة «نداء تونس»، وبغياب – على عكس ما يُشاع – نظيرٍ له داخل المشهد الحزبي المغربي، إذ ليس هذا الحزب مُجرد تنظيم سياسي يمثل «الدّولة العميقة» وبقايا العهد السّابق، إنه في الأساس امتداد لفكرة الدولة الوطنية التونسية، وترجمة سياسية لحساسية مجتمعية واسعة لا تشاطر الإسلام السياسي قناعاته ومرجعياته، وهو قبل ذلك ـ على المستوى الإيديولوجي ــ استمرار للإرث البورگيبي في التحديث والتنوير والإصلاح الثقافي.
لذلك، فإذا كان، من المهم التذكير بأن «بنكيران» ليس هو «الغنوشي» أساساً من حيث المساحة التي يملك كليهما للتحرك داخل الرقعة السياسية في كلا البلدين، فإنه من المُمكن أن نضيف إلى ذلك أن باجي القايد السبسي- لحد الآن – ليس مغربياً.