عيد القادر الحيمر
بثت قناة التلفزيون "دزاير" مساء أمس الإثنين برنامجا حواريا خصص لتسليط الضوء على توثر العلاقات المغربية الجزائرية بعد تعرض مواطن مغربي مقيم في المناطق الحدودية لطلقة رصاص أصابته في أنفه وفرضت عليه البقاء منذ يوم السبت وحتى الآن في غرفة العلاج المكثف على أمل أن ينجح الطاقم الطبي من إنقاذه من موت محقق.
مباشرة بعد انتهاء هذا الحوار بثت قناة "الشروق الإخبارية" برنامجا استطلاعيا ركزت فيه على مشكل تراكم الأزبال في الجزائر العاصمة ثم على مشكل السكن وخاصة منه المهدد بالسقوط.
البرنامجان معا جمع بينهما عامل الموضوع أكثر مما جمع بينهما عامل توقيت البث، ففي الحوار كانت النبرة الرسمية حاضرة في معظم التدخلات وإذا كان هناك من استثناء فإنه يبقى في الشكل الذي تعامل به البرلماني من حيث كونه أكد على أن البلدين معا محكوم عليهما بالتعاون فيما بينهما، ومن حيث كونه، وإن كان يحمّل المغرب مسؤولية توقيف مسار بناء وحدة المغرب العربي الكبير، استشهد بمقولة للراحل الحسن الثاني أثناء استقباله سنة 1989 لوفد جزائري حيث كان قد اقترح فيها ترك موضوع الصحراء للمعالجة في الهيئات الدولية المختصة، والتوجه نحو معالجة باقي الملفات في أفق تقوية التعاون الثنائي وبناء صرح المغرب العربي الكبير.
ماعدا هذا الاستثناء فإن المتدخلين كانوا بمثابة مسخرين لأداء مهمة لكنهم أخفقوا لأن رسائل الحب والتقدير والدعوة إلى الوحدة التي ادعوا توجيهها للمغرب كانت في الواقع رسائل موجهة للشعب الجزائري من أجل الدفع به إلى القبول بأن المغرب يتربص بالجزائر ويغار من الانتصارات الديبلوماسية التي حققتها الجزائر في ملف الصحراء، ومن أجل تحويل أنظاره إلى قضايا تبعده عن الاهتمام بالشأن الداخلي.
إن من المتدخلين في الحوار من اضطر إلى الدفاع عن فكرة أن المغرب هو الذي سيستفيد من إعادة فتح الحدود البرية، وقد تمت البرهنة على ذلك بكون فتح الحدود سيدفع عددا كبيرا من الجزائريين إلى التوجه إلى المغرب لأن الجزائر لا توفر لهم بنيات الاستقبال، ومع أن المتحدث لم يجرؤ على القول بأن الوضع الأمني الداخلي لا يسمح بالتنقل بأمان إلى الكثير من المناطق السياحية فإنه نسي بأن الجزائر بدورها ستستفيد بإضافة نقطة واحدة على الأقل في معدل نموها السنوي وفق ما أكدته مختلف التقارير الدولية، وستستفيد من تشغيل بنياتها التحتية، وخاصة منها الطرق والسكك الحديدية التي صارت شبه جاهزة للمساهمة في بناء صرح المغرب العربي الكبير الموحد.
إن من المتدخلين كذلك من نصّب نفسه خبيرا في شؤون الجريمة وتحدث بمنطق يوحي بأن الرصاصة التي أصابت المواطن المغربي لا يمكنها أن تكون جزائرية ونسي بأن البلاغ الرسمي الجزائري اعترف بإطلاق رصاصتين في الهواء وبأن المواطن المصاب لا يتوفر على أجنحة تمكنه من الطيران للتصدي لرصاصات الإنذار الجزائرية، فالضحية ومن كانوا معه هم خير شاهد على ما وقع أما تبريرات المتدخلين في الحوار الذي بثته قناة "دزاير" فلم تكن إلا تمويها للرأي العام الجزائري الذي لم يعد قادرا على تحمل المزيد، ولم يعد قادرا على اجترار نظام سياسي يقوده ظاهريا عجوز أنهكه المرض ويتحمل عواقبه حاضر ومستقبل الدولة الجزائرية التي أنعم الله عليها بثروة طاقية تدر عليها أموالا طائلة.
هذا التناقض يقودنا إلى ما تضمنه البرنامج الاستطلاعي الذي بثته قناة "الشروق" الإخبارية، فقد حمل البرنامج من الصور ومن التصريحات ما يؤكد أن الأزبال تغطي جوانب هامة من مختلف أحياء وساحات العاصمة وأن الفوز بسكن لائق في عمارة نظيفة ومبلطة يحتاج إلى تظافر جهود السكان وإلى إغلاق باب العمارة في وجه العموم، وإذا كان السكان قد عبروا عن استيائهم من التدهور الذي طال وطنهم وحوّله من بلد سياحي إلى موطن لا يؤمّن حتى لسكانه الحد الأدنى من النظافة، فإن من "الخبراء" الذين أعطيت لهم الكلمة من حمّل كل المسؤولية للسكان الذين لم يعرفوا كيف يحافظون على التراث الموروث لأنهم لم يتعودوا على العيش في مساكن تحصر ملكيتهم في جدرانها بينما محيطها يدخل في الملك العمومي، أما مسؤولية الدولة عن تدبير الشأن العام بما في ذلك جمع الأزبال ومعالجتها بالشكل الذي يؤمن حماية البيئة فلم ترِد على أي لسان.
الصور الأكثر مأساوية نقلها البرنامج من وهران، فقد حملت ما يؤكد أن نسبة هامة من سكان إحدى أهم مدن الجزائر يعيشون تحت عتبة الفقر ويواجهون باستمرار خطر الموت لأن العيش بإصطبلات للحيوانات أكثر رقيا وأمانا من المساكن التي يقيمون بها، وكيف لا وهي مهددة بالانهيار في كل حين، وكيف لا وهي محاطة بالأزبال وتحولت إلى مرتع تعبث فيه القطط والجردان.
هذا هو الواقع الذي يسعى حكام الجزائر الحقيقيين إلى تبريره باختلاق مشاكل مع المغرب، وهذا هو الواقع الذي يدفع نفس الحكام إلى الرد على مطلب الحسن الثاني الذي جدده الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة، بافتعال نزاعات حدودية وبتسخير الإعلام الرسمي الجزائري إلى التغني بانتصارات لم تتحقق، وإلى التعامل مع الجزائريين وكأنهم بلداء.
لقد ولى عصر الغفلة، وآن الأوان لإمساك الثور من قرونه، فلو كانت السياسة الجزائرية ناجحة لظهرت بوادر نجاحها أولا على الشعب الجزائري وثانيا على دول الجوار، أما وقد تم حرمان الشعب الجزائري من الاستفادة ولو من حصة ضئيلة من دخل المحروقات، كما تم حرمان القطاع الخاص الجزائري من الاستثمار في الإمكانيات التي يتيحها بناء المغرب العربي الكبير الموحد، فهذا ما لا يمكن التستر عنه حتى ولو دخلت الجزائر في حرب علنية مع المغرب، فالوطنية والنخوة لا تبرران الزج بشعب بأكمله في صراعات هامشية بينما الصراع الحقيقي يقوم على التعاون مع كل الجيران من أجل محاربة الفقر والأوبئة والجهل والهيمنة الأجنبية والاستعمار الجديد.
لا أحد من الجزائريين يقبل بأن يتعرض مواطن جزائري إلى طلقة رصاص من طرف جنود دول الجوار، وما ينطبق على الجزائريين ينطبق على المغاربة وغيرهم، وكون السلطات المغربية استعملت أبسط مسطرة ديبلوماسية لاحتواء الأزمة فإنما مارست حقها الطبيعي لعل حكام الجزائر يسيرون في نفس الاتجاه، أما وقد جاء الرد باستفزاز آخر، تمثل في استدعاء القائم بالأعمال في السفارة المغربية، فهذا سلوك لا يرضي حتى الجزائريين الذين يرون أن مشكلهم الحقيقي ليس مع المغرب وإنما مع قادتهم الذين لا يعرفون كيف سيتعاملون مع الأزمات التي تقوت بفعل تراجع أسعار البترول بحوالي 30 دولار للبرميل وبفعل الضبابية التي تجعل من الصعب التكهن بالصيغة السياسية التي ستعتمد في تدبير مرحلة ما بعد عبد العزيز بوتفليقة.