هاجم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي المناخ الفكري الذي تعيشه المجتمعات العربية والاسلامية، مشيرا إلى أننا لا نفكر ولا نريد ولا نختار، وإنما نحن في أيدي الحكام والفقهاء طينة عمياء يشكلونها كما يشاؤون بالنصوص التي يرجعون إليها، وهي محفوظات محنطة لا تتغير حسب تعبيره.
وأضاف حجازي، في مقال نشر بصحيفة "الأهرام" المصرية بعنوان "خرجنا على العقل.. فخرجنا من التاريخ!"، إذا كانت الشعوب الأخرى تعيش في زمن جاليليو ونيوتن وديكارت وفولتير وداروين وأينشتين، فنحن نعيش في زمن الأشعري والغزالي وابن تيمية وحسن البنا وبن لادن وسيد قطب وداعش وبوكو حرام.
وقال حجازي اننا لم نترك مناسبة نتنكر فيها للعقل ونمتثل للطغيان إلا وفعلنا، مشيرا إلى انه خلال الصراع الذي دار بين المعتزلة أنصار العقل وبين أصحاب الحديث أنصار النقل، انحزنا لهؤلاء، وتخلينا عن حقنا في أن نفكر ونختار..
وقال حجازي إننا كما تنكّرنا في القرن الثامن الميلادي للمعتزلة، تنكّرنا في القرن الثاني عشر لابن رشد، مشيرا إلى أن ابن رشد واصل الطريق بعد المعتزلة وسار خطوة أبعد، لأنه جعل العقل مرجعه في فهم النصوص.
ونظرا لأهمية ما جاء في المقال من مضامين تشرّح بجرأة واقع المجتمعات الشرق-اوسطية والشمال-افريقية والدول المنتسبة إلى ما يسمى بالعالم الاسلامي، فإننا نعيد نشرها كاملا تعميما للفائذة:
أحمد عبد المعطي حجازي
يوم السبت الماضى دعانى المفكر الكبير مراد وهبة لمشاركته الحديث عن "إشكالية الحداثة فى العالم الإسلامى" فى ندوة عقدت فى قاعة "منتدى الشرق الاوسط للحريات" وحضرها جمهور من المهتمين يتقدمه الدكتور مصطفى الفقى. وقد رحبت بالمشاركة فى الحديث عن هذا الموضوع الذى نظر فيه الدكتور مراد للمعضلة التى نواجهها نظرة شاملة تتيح لنا أن نبحث عن جذورها البعيدة وأسبابها المتداخلة التى لانستطيع بدونها أن نفهم النتائج ونرى الوقائع والتفاصيل.
نحن لا نواجه ما يواجهه الآخرون من مشاكل الحياة فى هذا العصر. لانواجه العنف أو التطرف أوالفقر أو البطالة كما تواجه المجتمعات الأخرى هذه المشاكل فتسعى لحلها بما تملكه من الوسائل والطاقات التى توافرت لديها فى هذا العصر، وإنما نواجه المشكلة الأصلية أو المشكلة الأم التى تتفرع منها كل المشاكل، وهى أننا لم ندخل هذا العصر بعد، ولم نتسلح بأسلحته ولم نتمكن من أدواته.
هذا العصر الذى دخله الأوربيون منذ ما يقرب من ستة قرون تأسس على احترام العقل والرجوع إليه، وعلى اكتشاف الطبيعة وتسخيرها لخدمة الانسان، وعلى الفصل بين الدين والدولة، وعلى الديموقراطية، والإيمان بوحدة الجنس البشرى ووحدة الحضارة الانسانية، والتسليم بحقوق الانسان. وهى مبادىء لاينفصل بعضها عن بعض، لأن اكتشاف الطبيعة لايتحقق إلا باحترام العقل والثقة فيه. واحترام العقل لايكون إلا بالفصل بين المجالات التى يعمل فيها العقل وهى أمور الدنيا وحاجتنا فيها للأمن والحرية والتعاون والتقدم وبين المجال الذى يعمل فيه الإيمان وهو الدين الذى يصلنا بالغيب ويقربنا من الله. ونحن نرى أن هذه المبادىء ليست حاضرة فى حياتنا وليست فاعلة.
الخرافة لها عندنا مكان متقدم. والأمية بصورها المختلفة. والطغيان بجميع أشكاله. والخلط بين الدين والسياسة. والانتماء للماضى، والخوف من المستقبل، والعدوان على الحريات. كل ما يحبسنا فى كهوف الماضى ويبعدنا عن العصور الحديثة. ونحن إذن لانواجه مشكلة أو أكثر من مشكلات الحياة فى هذا العصر، وإنما مشكلتنا أننا نعيش خارجه وأننا لسنا موجودين فيه. ومن هنا كان موضوع الندوة هو إشكالية الحداثة فى العالم الاسلامى. فنحن لانواجه مشكلة وإنما نواجه إشكالية. وبينهما فرق جوهرى.
حين نتحدث عن مشكلة نتحدث عن مسألة جزئية. نقص نعرفه ويمكن أن نستكمله، أو عقبة نستطيع أن نتخطاها، أما الاشكالية فقضية غامضة معقدة ذات جذور غائرة وأبعاد متفرعة متداخلة لانحقق نجاحا كبيرا إذا واجهنا كلا منها على حدة، وإنما ينبغى أن نواجهها من أصولها وجذورها دفعة واحدة لأنها ممتدة فى الزمان والمكان.
لقد توقفنا عن التقدم والتطور منذ قرون عديدة، حين خاصمنا العقل وتنكرنا له واستسلمنا لسلطة النصوص وسلطة قراء النصوص الذين فرضوا علينا مافرض عليهم مما أتيح لهم أن يفهموه وما وجدوه متفقا مع مصالحهم ومصالح الحكام الذين يعملون فى خدمتهم. ثم إن هذا الذى حدث لنا لم ينحصر فى بلد واحد أو عدة بلاد وإنما شمل العالم الاسلامى كله، فالذى حدث فى المغرب حدث فى المشرق، والذى ضاع فى الأندلس فى القرن الخامس عشر ضاع فى فلسطين فى القرن العشرين!
لماذا توقفنا عن التقدم؟ وكيف تحملنا هذه النكبات وظللنا حتى الآن متخلفين، على حين يتقدم الآخرون يوما بعد يوم ويخرجون من الظلمات إلى النور؟
الجواب واضح لانحتاج فى الوصول اليه لبحث طويل، وإنما نحتاج فقط لقدر من الشجاعة نتغلب به على الخوف وننطق بالحق الذى نشهده ونراه.
نحن لم نترك مناسبة نتنكر فيها للعقل ونمتثل للطغيان إلا وفعلنا.
فى الصراع الذى دار بين المعتزلة أنصار العقل وبين أصحاب الحديث أنصار النقل انحزنا لهؤلاء وتخلينا عن حقنا فى أن نفكر ونختار.
وكان المعتزلة يقولون إن الله خلقنا أحرارا عقلاء وأعطانا الحق فى أن نختار ما نفعله، ولهذا سيحاسبنا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسىء. وهذا هو العدل.
أما أنصار النقل فهم يعتقدون أننا لا نملك من أمرنا شيئا وأن كل ما نفعله مكتوب مقدر علينا، وليس أمامنا إلا أن ننظر فى النصوص أو نسأل من ينظرون فيها لنعرف ما يجب أن نؤديه فنؤديه دون أن نفكر أونفهم أو نعترض. وقد استمعنا لهؤلاء وأطعنا وتعودنا على السمع والطاعة والاستسلام للواقع الذى ظل ثابتا لا يتحرك من مكانه ولا يتغير ولا يتطور، لأن النصوص التى يرجع لها أنصار النقل لا تتغير ولا تتطور، ولأن ما تقوله هذه النصوص قدر لا نستطيع دفعه وإلا خرجنا من الملة.
وهكذا تحول الدين على يد هؤلاء فأصبح حارسا للتخلف وخادما للاستبداد.
وكما تنكرنا فى القرن الثامن الميلادى للمعتزلة تنكرنا فى القرن الثانى عشر لابن رشد.
ابن رشد واصل الطريق بعد المعتزلة وسار خطوة أبعد، لأنه لم يكتف بالرجوع الى العقل فيما سكتت عنه النصوص، وإنما جعل العقل مرجعه فى فهم النصوص. اذا وجد فى النص مالا يتفق مع العقل لجأ إلى تأويل النص ليصبح معقولا. ونحن فى التأويل لانقف عند المعنى الظاهر، لأن اللغة ظاهر وباطن، وهى حمالة أوجه نميز بينها بالعقل، وهو الميزان الذى زودنا الله به لنعرف الخير والشر ونميز بين الحق والباطل. لكن فقهاء قرطبة ثاروا على ابن رشد وحرضوا العوام عليه يرمونه بالإلحاد ويلقون عليه القاذورات ويتهمون الحكام بحمايته مما دفع هؤلاء للتضحية بابن رشد ونفيه واشعال النار فى مؤلفاته. وتلك كانت نهاية عهدنا بالعقل الذى هاجر الى أوربا واستوطن اللغة اللاتينية بعد أن نفاه المسلمون من اللغة العربية.
لقد ترجم الأوربيون مؤلفات ابن رشد التى كانت عاملا من عوامل بعثت فى الأوربيين روحا جديدة استعادوا بها إيمانهم بالعقل والحرية والتقدم. فالتاريخ الانسانى ليس مجرد حوادث متفرقة أو مصادفات أو دورات تكرر نفسها كما يتكرر الليل والنهار، وإنما التاريخ حركة إلى الأمام يكتشف بها البشر ماحولهم وينمون خبراتهم ويلبون مطالبهم المادية والمعنوية بشرط أن يحتكموا للعقل الذى يختزن التجارب، ويتأمل الظواهر، ويستخلص الدروس والعبر، ويربط بين النتائج والأسباب، ويقارن بين الماضى والحاضر، وبهذا يكتشف حركة الزمن ويدرك أن التاريخ صناعة بشرية وتقدم مستمر إلى الأمام.
هكذا خرج الأوروبيون من عصور الظلام ودخلوا فى العصور الحديثة، على حين ظللنا نحن نجتر الماضى ونكرره ونقلد أسوأ ما فيه، لأننا تنكرنا للعقل واستسلمنا للطغيان.
نحن لانفكر ولانريد ولانختار. وإنما نحن فى أيدى الحكام والفقهاء طينة عمياء يشكلونها كما يشاؤون بالنصوص التى يرجعون إليها، وهى محفوظات محنطة لاتتغير. ونحن بالتالى لانتغير. والزمن أيضا ثابت جامد لايتحرك ولايتطور . فإذا كانت الشعوب الأخرى تعيش فى زمن جاليليو ونيوتن وديكارت وفولتير وداروين وأينشتين فنحن نعيش فى زمن الأشعرى والغزالى وابن تيمية وحسن البنا وبن لادن وسيد قطب وداعش وبوكوحرام!.