*النموذج الراهن :
إذا انحدرت سلالتك،من الأوليغارشيات الأسروية المعروفة،فالأمر هين، ولايلتمس كثيرا من الوقت،بنفس يسر كتيب كيف تتعلم الفرنسية في خمسة، أيام بدون معلم؟.
ما عليك سوى الحصول على الباكالوريا من إحدى مدارس"لامسيون"، وتسافر على الفور إلى معهد للقناطر والجسور،المنتمي أساسا إلى القلعة الفرنسية،أو تكسر التقليد قليلا وتغير الوجهة نحو أمريكا وكندا،كما دأب عليه الأمر في العقدين الأخيرين، وهي فرصة كي تقوي لغتك الانجليزية، مما سيمنحك بعض الأفضلية، خلال تنافسك مع أقرانك الفرانكفونيين، كي تظفر بأكثر الكراسي سمكا.تحصل على التيتر الجامعي،كي تؤثث السيرة الشخصية قبل العلمية،بتواشي لابد منها، لوضع أولى أصابع أقدامك نحو وجهة وزارة من الوزارات، أعوام قليلة،عقب عودتك المظفرة.
تلتحق بالحزب التقليدي المعهود لدى كل أفراد الأسرة،فتلتصق بداية، الساق بالساق،بالديناصورات مصاحبا، مستمعا، مشاهدا، كي تشرب الصنعة في أصلها، وتمرن عضلاتك بأولى التسخينات، وتتذوق رويدا رويدا، حلاوة اللعبة. يجدر بالأساس، أن تتعود حواسك،على تمثل أولى نصوص المعلقة الشعرية الطويلة، المنسوخة بحبر الشفرة المستمدة خلطتها من شفرة السومريين،التي سترددها إلى آخر لحظة في حياتك، كي تخلد "زعيما وطنيا" لايشق له غبار.
خلال حقبة التدريب،التي تتفاوت حسب مدى جدارتك على هضم تمارين المريد،ستشتغل الماكينة الإعلامية ،فتتوالى صورك يوميا على الصفحة الأولى لجريدة الحزب،وأنت عصري المظهر، حليق الوجه تماما بغير شارب أو لحية،ملامحك جد مرتاحة وتسريحة شعرك على منوال تلاميذ مدرستي الحلوة، وزنك الجسماني نحيف ورشيق،تحسبا لفائض من الخير سيكتنزه، بعد سنين قليلة.تفاصيل صغيرة،لكنها مهمة بخصوص سيمياء الترويج لتحديث النخب،كما الشأن معك.
دؤوب على هذا التجمع أو ذاك،فمقتضيات تكريسك الأولى تقتضي منك صبرا،على الحضور والهتاف ل"blA bla"تجمعات ماراطونية،نسيت أجواءها البئيسة لفترة حينما تواجدت في أوروبا، وإن كنت ستنتقل جوا بواسطة الطائرة وتنام في فنادق خمسة نجوم. مع كل الإنهاك ، تحلى بتماسك كبار المناضلين،بعدها سترتاح في صالونات الرباط، متوجا مكللا مدى العمر.
أثناء مرحلة الإرساء والتشكل الفيزيقي والذهني،وتيقن كهنة الحزب بأن وجهك أضحى مألوفا لدى القواعد والأجهزة وجيش الاحتياطي من "الكتلة الناخبة"،سيتم الانتقال إلى مرحلة الترويج المضموني،على اعتبار أنك مثال قائم لتشبيب الحزب،وبأنك مناضل وحفيد مناضل، قد ارتشفت رحيق الوطنية من كنهها الأول. هكذا، سيشرع كتبة الحزب وجوقة "الطبالة" في التحوم حولك والتقرب إليك بكل الطرق والوسائل،وأنت من أنت !!مشروع نعمة مستقبلية، تتهيأ على طبق من ذهب .
سينكبون على تدبيج مقالاتهم عنك،على اعتبار أنك الشخص النوعي الذي لم يخطئه حدس وحكمة الديناصورات،كي تلتقط المشعل مواصلا مسيرة بناء الحزب بدينامية وفتوة الشباب، لكن تحت رؤى ومسامع مجلس الديناصورات،الذي سيظل المرجعية الأولى بخصوص الإشراف والتوجيه،وتحديد الخطط الممكنة لاستراتجيات الحزب.
خلال أقرب فرصة ممكنة،ستجد نفسك عضوا قياديا في المكتب السياسي أو اللجنة التنفيذية،حينذاك ستتسارع المنابر الصحفية والقنوات التليفزيونية الوطنية،على الإسراع لإجراء حوارات معك واستضافتك إلى برامج حوارية، كي تفهمنا مقتضيات الحداثة السياسية والثقافية التي يتفرد بها بلدنا.في ظرف قياسي تكرس الاسم،ثم قبل أيام عن موعد تنصيب الحكومة الجديدة،سيتسرب بناء على سوسيولوجيا التشويق وجس نبض ردود الفعل،خبر احتمال استوزارك.بالفعل، تصبح وزيرا،لكن ليس على رأس الوزارة التي انصب حولها التداول الإعلامي.
بعد احتفالات تعبيرك عن مشاعر السعادة،سيبدأ الجد كما كشفت في أول تصريح لك،فقد دقت ساعة العمل، لذلك ستقدم على إحداث نقلة نوعية داخل وزارتك تمس المبدأ والنظرية والمنهج والمنهجية والوطن والوطنية.
تنقضي سبعة أيام على استهلاك فاكهة المشمش، كما يقول المثل،تمر السنة الأولى والثانية،تختمر الملفات حد النتانة،ثم لايكف الوزير صحبة الفريق،على بعث وتشبيب وتخصيب مابوسعه من روح في أساليب وأدبيات أكلها الصدأ بمرافعات :"إننا وإننا وربما ولكن".
ذات مساء، يحل الوزير ضيفا على برنامج تلفزيوني،وإبان ساعة الذروة، وبكل برودة القطب المتجمد الشمالي،سيكسر الجرة، مؤكدا بكل بساطة، أنه ليس وزيرا كما يُظن ،فلا يزرقيد أنملة وازرة وزر استوزاره،بل هو مجرد ممثل لاغير،وقع عليه الاختيار لأداء دور معين،خلال فترة معينة،من أجل أشياء غير معينة…
بالتالي، اشربوا البحر إن استطعتم إليه سبيلا.
*النموذج المزركش :
هو سياسي قد أدرك الآن عقده السادس على أقل تقدير،ينتمي إلى الجيل الثاني أو الثالث من تاريخ الحركة الوطنية.تدرج عبر مختلف مكونات الحزب،بيد أن ما ميزه عن مناضلين آخرين من نفس سياقاته،اتصافه بشخصية لها ملكات، تزاوج بشكل عجيب بين نمطية تمنحه مجالا رحبا لصهر وتذويب فردانيته كمناضل حر وعاقل،مثلما يروج، ثم تلك الميكيافيلية الحربائية التي ستمنحه قدرة هائلة، على تبرير اللا-مبرر كيفما تأتى. مع توالي السنوات، سيغدو أفقه تضليلا بكل مايضمره المفهوم من اتهام.
إذا استلهم النموذج الأول،مسوغه من ملحاحية التشبيب،فالثاني وإن اصطبغ رأسه شيبا،لتمييع تراث الحركة الوطنية،فهو مع ذلك لايتوقف مع كل مناسبة وغيرها،عن التغني بمواويل كونه في طليعة المستوعبين لكيفيات تأويل المشروع، الذي أرادته نظريات وسلوكات رموز الحركة الوطنية لمستقبل البلاد.
مادام موقعه كذلك،فهو اليساري واليميني والوسطي والاشتراكي والشيوعي والليبرالي والأصولي والتراثي والحداثي والمستقبلي والقومي والأمازيغي والعروبي والبعثي والقُطري والخليجي والإفريقي والأوروبي والأمريكي والأخلاقي والكلبي والدستوراني والطقوسي والحكومي واللا-حكومي والبرلماني واللا-برلماني والانتخابوي واللا-نتخابوي… . لايتعلق الأمر، بتعددية الواحد في إطار عقلنة الاختلاف،لكنه أساسا التيار الهرطوقي بامتياز حيث التفنن في الاستهلاك الشعاراتي حسب دواعي البرنامج المرحلي،لوازع :معرفة من أين تؤكل الكتف؟إذن، هاهو يساري،تحت يافطة ما قدمه الشهداء من تضحيات بالغالي والنفيس،بحيث سنعلم جميعا عبر منصات المؤتمرات أن هؤلاء لم يكونوا ولن يتحولوا مع التحولات إلى أبخرة لعظام أشباح.ثم هاهو ذات الخطيب،الذي تهتز من كلامه أركان الجبال،صار مجرد مفاوض سري أليف،حول مداخل الاستوزار، كيفما جاءت الوسيلة؟ متى الزمان؟ ودونما مهمة ؟المهم سحر المنصب ونداء الكرسي. !!
وكما انتهى بنا المآل مع الوزير الشاب خريج الأنوار الأوروبية. أيضا ذات مساء، سيحضر السياسي التاريخي المحنك، الذي صقلته التجارب والمحن،الوصي على متن الحركة الوطنية،إلى استديو التلفزة،كي يتلاعب بالكلمات، ملقيا في وجه الجميع وقت الذروة، بأن المغرب ليس بالسويد أو حتى إسبانيا،بالتالي، لاتعني الوزارة لديه، أن تكون وزيرا بالمعنى الاشتقاقي للكلمة،فالمفاهيم تسافر كما يسافر البشر،تتعبها الرحلات كما يتعب البشر،لذلك فهو مجرد وسيط لغوي لاأقل ولاأكثر، تتوخى وظيفته بالتحديد،أن يملأ الفراغ لغة،عفوا بل ضجيجا… .
بالتالي، اشربوا البحر، إن استطعتم إليه سبيلا.