تربّينا جميعا على أنه ليس من اللائق أن يدخل معك شخص كيفما كان إلى «التواليت». ومع ذلك، سمحت له باقتحام هذا المكان الحميمي، ضدا على جميع الأعراف والمواضعات. أنا وهو، معا، في دورة المياه. أجلس على الكرسي الأبيض. وأثناء ذلك، أستله من جيبي، وأدخل إلى «الفايسبوك»، ثم أعرج على «اليوتوب» ومواقع الأخبار، وأنسى أني قضيت حاجتي، ويحدث أحيانا أن أنشغل به، إلى أن يطرق أحد الباب، مستعجلا خروجي. مع الوقت، لم أعد قادرا على الاستغناء عنه، وأصبح ضروريا مثل ورق «التواليت» والماء والصابون، والأدهى هو أنه ذكي، في مكان لا يحتاج فيه المرء إلى ذرة ذكاء؛ بل ندخل إليه عادة للتخلص من حاجة طبيعية ضاغطة. ولم أرتح إلا بعد أن سقط ومات وتشظى زجاجه وتكسر؛ وها أنذا منذ أكثر من أسبوع أعيش بدونه، وأدخل إلى «التواليت» وحدي، مركزا غير منشغل بأي شيء آخر. كان من نوع «سامسونغ»، وذكيا طبعا. ورغم أنه مات، فإني لم أبك عليه، وتأسفت فقط على ما دفعت فيه، وعلى غبائي الذي دفعني إلى شرائه بالثمن الخيالي، لأصبح عبدا له. حقيقة، لم أذق، منذ سنوات، طعم الحرية إلى أن تكسر هاتفي الذكي؛ فصرتُ أشعر بأني طليق ومستقل، وأملك زمام نفسي ولست خاضعا لأحد. كانت حياتي أجمل قبل أن يتم اختراعه، وإذا لم أكن في البيت فأنا غير موجود وحر وفي حل من أي مراقبة، وليس بمقدور أي كائن أن يعثر عليّ، ويتصلون بي في الهاتف الثابت ولا يجدونني. وأتذكر أن أول هاتف نقال حصلت عليه كان قد منحني إياه رئيس التحرير في أول جريدة اشتغلت بها؛ ولم يكن هدية، كما اعتقدت، بل ليضبط تحركاتي ويشل حركتي ويحد من حريتي، ويرغمني على العمل أينما كنت، وفي أي وقت يشاء. يتحدث الكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو عن الحق في العزلة التي حرمنا منها الهاتف النقال، حيث صرت معه مضطرا أن أكون حاضرا في كل مكان، وجاهزا ومستعدا لأرد على كل متصل متطلب؛ وما دمت أملك رقما، فإنه من واجبي أن أرد وأن أجيب وأحدد موقعي في أرض الله.. أما إذا لم أفعل، فإني بذلك أخرق القانون وأشوش على حضارة الاتصال. إنه مثل الحكة، تكون مستغرقا في مشاهدة فيلم، فتهرشك يدك وتترك الفيلم من أجله، وتفتحه من أجل لا شيء، ثم وأنت تقرأ كتابا تشعر بحكة في يدك وتتخلى عن القصة، وحتى وأنت تأكل تترك صحن المرق، وتغرق فيه، دون سبب مقنع أو دافع مفهوم. البشرية كلها ضحية له، والطيبون والأشرار، واللصوص أيضا والقتلة، فرقمك وهاتفك يحدد مكان الجريمة.. ومهما كنت بريئا، فأنت مراقب من زوجتك ومن أصدقائك وأعدائك ومن السلطة. وحين تكسر تنفستُ الصعداء، وأصبحت أخرج من البيت، وأرى الناس يتحدثون في الهاتف، وهم يقودون سياراتهم وهم في المقاهي. وفي الغالب، يتحدثون ليتحدثوا، وليس لحاجة ضرورية، بينما أنا وحدي حر طليق، أشفق عليهم، وأنظر وأتأمل ما حولي، وأراقب الناس الذين صار كل واحد منهم يراقب الآخر عن بُعد، في مجتمع تتحكم فيه آلة صغيرة موضوعة في الجيب. بسببه كنت محاصرا، و مع كل رنة عليّ أن أعترف، وأن أفصح عن مكان وجودي، وعما أفعل، ومع من أجلس، وإذا رفضت الرد تهجم عليّ في الحين رسالة تهديد كي أجيب. أما إذا أغلقته لأستريح منه؛ فهذا، في نظر المتصلين بك، جريمة تستحق العقاب. أعرف أشخاصا يمرضون إذا نسوا هاتفهم النقال في البيت، أما إذا فرغ شحن بطاريته، فكما لو أن نبض قلبهم هو الذي توقف، فيدخلون إلى المقاهي وإلى أي مكان فيه كهرباء، وإذا لم يجدوه يتنرفزون ويرفضون هذه الحرية التي يتمتعون بها بعد أن سكت ولم يعد يرن. وعندما يتشاجر زوج مع زوجته، أو عاشق مع حبيبته، فالهاتف النقال يؤجج الغضب، ولا يمنح الطرفين فرصة لضبط النفس؛ لأن الصمت يلطف الأجواء، والابتعاد قليلا يهدىء من حدة الخصام. وبدل أخذ مسافة، يلاحقك الاتصال والهاتف النقال الذي تحلو معه الشتائم ويسهل الكلام ويمهد للقطيعة النهائية. دون أن ندري وقعنا في هوس فقدان الحرية، وفي الخضوع التام إلى هذه الآلة.. وها هو العالم كله ينتظر على أحر من الجمر شراء «أيفون 6»، وساعته العجيبة التي تخبرك بأنك مريض، وأن ضغط دمك ودقات قلبك ليست على ما يرام، وأنك معرض للموت ومراقب، وكل هذا بالثمن الخيالي.. كل هذا نشتريه كل ستة أشهر، لنعرف خبر موتنا، وليشاركنا الجميع هذا الخبر المخزن.
بقلم : حميد زيد