عادت أحلام "الثورة" لتدغدغ بعض النفوس، التي فقدت بوصلة التوجه نحو المستقبل، بعد أن تخلى عنها "الربيع العربي" المزعوم، وألقى بها في يم اليأس والإحباط.
وفي محاولة لقراءة الوضع بعد ثلاث سنوات أفضت إلى ما أفضت إليه في تونس برحيل بنعلي، ومصر بحبس حسني مبارك، وليبيا بمقتل العقيد معمر القذافي، ودخول البلاد في أتون حرب أهلية من أجل القبيلة والنفط، وفي سوريا حيث براميل المتفجرات تسقط على الرؤوس، ونبتت الجماعات المتطرفة كفطر لتنجب ماردا اسمه: "داعش" لا يجيد سوى القتل...
في إحدى هذه القراءات اجتهد الزميل علي أنوزلا، من أجل أن يعقد مقارنات بين حالة تونس قبل ثلاث سنوات وحال المغرب اليوم، رغم علمه علم اليقين، أن "لا قياس مع وجود الفارق"، لكنها النفس الأمارة بالسوء، والرغبة في خلط الأوراق من خلال الارتكاز على بعض الأوهام التي تسكن القلب والعقل، لأن ما تقوم به السلطة في المغرب هو تنزيل مقتضيات دستور فاتح يوليوز 2011، الذي أعاد تنظيم العلاقة بين السلط، وليس إعادة تحكم في المشهد السياسي أو تدجين النقابات أو ضبط المجال الإعلامي أو مراقبة أنشطة المجتمع المدني أو تضييق هامش حرية الرأي والتعبير.
من المجحف حقا أن يتم الاستشهاد بحالة حزب البديل الحضاري الذي تم حله بمقتضى القانون بعد اعتقال أمينه العام ضمن خلية بلعيرج الإرهابية، أو حالة حزب الأمة الذي حوكم "أمينه العام" في إطار نفس الخلية، وبنفس التهمة، وأبطل القضاء تأسيسه، أو بالجمعية المغربية لحقوق الإنسان والعصبة المغربية لحقوق الإنسان... اللتان تمارسان أنشطتهما بكل حرية، وتعقدان التجمعات والندوات الصحفية وتصدران البلاغات وتعدان التقارير، أو بحالة "الحرية الآن" التي قررت مقاضاة سلطات ولاية الرباط، أو جماعة العدل والإحسان التي ترفض أن تخضع للقوانين الجاري بها العمل، أو حزب النهج الديمقراطي الذي يرفض مبدأ المشاركة السياسية أصلا.
من الإجحاف الاستناد إلى هذه الحالات الشاذة، وإدعاء القيام بتحليل موضوعي، لأنها حالات ظلت دائما خارج السياق وتغرد خارج السرب، ولا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب، وتمتلك قدرة كبيرة على الافتراء، ولا تريد أن ترى إلا الظلام.
ومن المجحف أن يتم الاستشهاد أيضا بما تعيش بعض الأحزاب من مخاض داخلي، بعد أن تراجعت انتخابيا وفقدت مكانتها داخل المجتمع، وأصابها احتلال العدالة والتنمية للصف الأول في الانتخابات التشريعية لـ 25 نونبر 2011 وبفارق كبير بصدمة، جعلتها تراجع أوراقها من جديد، وتجتهد بغية استعادة مواقعها التي اكتسحها المد الإسلامي.
وليس غريبا أن يعيش حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي هذا المخاض، الأول بعد أن لدغ من جحر الإسلاميين، والثاني الذي يعاني من أزمة تيارات ونخب وتباين في قراءة المعطيات وتحليل الوقائع.
وخلال هذه السنوات الثلاثة قطع المغرب مئات الأميال في التطبيع مع الخيار الديمقراطي لأن هذا التطبيع هو جوهر الانتقال الديمقراطي الذي نعيشه اليوم في المغرب، وليس عودة "البنعلية" كما يتوهم البعض.
إن ما يميز المغرب عن بلدان الجوار هو المؤسسة الملكية التي تحظى بإجماع مكونات المجتمع بالإضافة إلى غياب الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، وغياب شروط النزاع الطائفي الذي يمكنه أن يعصف بالاستقرار هذا دون أن ننسى مؤشر الثقة الذي يتميز به المغرب لدى القوى الدولية.
إن الذي يحكم المغرب اليوم هو الدستور، أما الدولة البوليسية، فهي موجودة في أدهان الذين تطاردهم الأوهام والوساوس... الذين كانوا على صلة بنظام بنعلي قبل أن ينهار، لكنهم سرعان ما تنكروا له بعد أن فر هاربا إلى السعودية، من دون نسيان أن بنعلي نفسه غادر منصبه كملحق عسكري بسفارة تونس بالرباط عقب تورطه في فضيحة أخلاقية.
إن الدستور المغربي الجديد٬ يتضمن مكتسبات على طريق بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، ولم يكن قط محاولة للالتفاف على مطالب حركة 20 فبراير أو غيرها، بل جاء في سياق تطور نوعي، ونضج للمرحلة التاريخية وبالتالي فهو تلبية لحاجيات وليس خضوعا لضغوط.
إن النص الدستوري المغربي غني" بجملة من المقتضيات التي تمس عمق وأسس المجتمع المغربي٬ خاصة الحرية والمساواة أمام القانون٬ و يعزز مبدأ الفصل بين السلطات٬ والمساواة بين الرجل والمرأة والتعددية السياسية واحترام الحريات الأساسية والحكامة الجيدة.
ويضع الدستور الأساس لهيكلة جديدة للتنظيم الترابي للمملكة٬ يستند٬ على الخصوص٬ على نقل ملموس للاختصاصات من المركز إلى الجهات٬ وعلى أشكال مختلفة للشراكة بين الدولة والجهات.
هذا هو حالة المغرب بعد ثلاث سنوات من "الربيع العربي"، الذي نجح في التخلص من أوهامه ( الربيع العربي) أما تونس الشقيقة فهي تسير أيضا على نفس النهج بعد أن نجحت في التحرر من سيطرة "الإسلاميين".