أحمد الحراق
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه
ردا على مقال: "الدعاء الغريب الذي تختم به الدروس الرمضانية الرسمية؟" لمحمد راضي
بينَ الفينة والأخرى، يطلع علينا الأستاذ محمد راضي، بمقالات ودراسات، هنا وهناك، تتطرق لمواضيع وقضايا جلها يتعلق بالخطاب الديني بشكل عام، والخطاب الصوفي منه بشكل خاص. وقد آثرنا هنا أن نقف مع واحد من مقالاته تلك قصد المحاورة والمذاكرة مع صاحبه إسهاما منا في إغناء وإثراء الموضوع المثار فيه، وإلقاء بعض الأضواء على كثير من جوانبه.
المقال الذي وقع اختيارنا عليه يحملُ عنوان: "الدعاء الغريب الذي تختم به الدروس الرمضانية الرسمية؟"، وقد خصصه صاحبه للتنكير على "صلاة الفاتح" التي هي إحدى الصيغ المشهورة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم داخل المغرب وخارجه.
وقد مهَّد الأستاذ لموضوعه الرئيسِ هذا بإثارة قضايا عديدة نوردها متتابعةً كما جاءت في مقاله:
- قراءة القرآن الكريم بصفة جماعية؛
- الدعاء عقب الصلوات؛
- بناء الأضرحة وزيارتها؛
- التوسل بالصالحين؛
- حديث أولية النور المحمدي؛
- قراءة قصيدتي: البردة والهمزية وما شابههما من قصائد المديح النبوي الشريف.
وقد صنفت هذه القضايا جميعُها، عند صاحب المقال، ضمن خانة "البدعة الضلالية"، جاعلا من أصحابها القائلين بها "مبتدعين" "ظلاميين" "مضلين"، لينتقل بعد هذا إلى الوقوف عند موضوع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الموضوع المحوري للمقال، وبالخصوص عند إحدى صيغها المعروفة: "صلاة الفاتح" لينعت صاحبَها بـ "الزندقة" و"الفرية" و"الأفك" و"الكذب" وأخيرا بـ "الكفر"، واصفا أيضا كلَّ من صلى بها بـ"الضلال" و"البدعة"؛ ليصل في نهاية المطاف إلى وصف المجالس السلطانية بممارسة "المنكر" حينما يتم ختم هذه المجالس بالصلاة الفاتحية هاته، مؤنبا علماءَ الأمة على عدم مناهضتهم لهذا "المنكر" !! وعدم وقوفهم في وجهه.
لا يتسعُ المجالُ، هنا، لنتناول تلك القضايا الست التي تمت الإشارة إليها سابقا بمقا لأن كل واحدة منها تستوجب معالجة مستقلة وخاصة بها، بل سنركز الحديث على ما أثاره، صاحب المقال، حول "صلاة الفاتح" باعتبارها محور هذا المقال.
كم كنا نودُّ من الأستاذ المحترم وهو يصنِّفُ صيغة "صلاة الفاتح" ضمن خانة "المنكر" أن يقفَ عند هذه الصيغة مليا ليطلعنا على تجلياتِ ومظاهر هذا "المنكر" الوارد فيها، هل يكمن ذلك في بنيتها العميقة أم في بنيتها السطحية؟ في أية زاوية يقبع هذا "المنكر"، بداخل حروفها أم بين ثنايا كلماتها وجملِها أم ماذا؟ حتى إذا ما ثبت العثورُ على هذا "المنكرِ" في تضاعيف هذه الصيغة ومضمونِها ثبوتاً لا مراءَ فيه، آنذاك يتم الانتقال بسهولة إلى الشخص المتلفِّظ والمصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة "المنكَرَة"، وحكمنا عليه بتلك الأحكام ونعتناه بتلك النعوت التي يحلو لصاحب المقال أن يطلقها على كل من يستعمل هذه الصيغة.
أما وقد أعوزَه التدليل على وجود "هذا المنكر" من بين ألفاظ وجمل صيغة هذه الصلاة الفاتِحية، فقد التجأ، صاحب المقال، إلى التنقيب على تبرير هذا "المنكر" بطرق أخرى خارج نص هذه الصلاة نجملُها في طريقتين اثنين:
الطريق الأول: كونُ هذه الصيغة مستحدثَةٌ لم تكن في عهدِ الرسالة النبوية، وأن الصلاةَ الوحيدة والمسنونة هي الصلاة الإبراهيمية؛ مستدلا على ذلك بمضمون الحديث الشريف الذي نص على أنها هي الصيغة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابهِ لما سألوه عن كيفية الصلاة عليه بعدما علموا كيفية السلام عليه، ليخلص، صاحب المقال، إلى أن الصلاة الإبراهيمية هي التي التزم بها الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم، وكل صيغة غيرها هي بدعة وضلال ومنها، طبعا، صلاة الفاتح.
الطريق الثاني: توسل، صاحب المقال، أيضا بتبرير وجود هذا "المنكر" بالهالة التي أضيفت على "صلاة الفاتح" وبالفضائل التي أعدت للمصلي بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ناعتاً كل من روَّج لفضائلها هاته بالبدعة والإفك والكذب والكفر، وفي طليعة هؤلاء الشيخ السيد أحمد التجاني رحمة الله عليه الذي أخبر أنه تلقى هذه الصيغة وفضيلتها مباشرة من عند رسول الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام. وبناء على هذين السببين / التبريريين، أخذ، صاحب المقال، يُبدِّع ويضلِّل كلَّ من يصلي على النبي بصيغة صلاة الفاتح.
وبمناقشة هذين التبريرين نرى:
أ) أن الحديث النبوي الذي استدلَّ، صاحبُ المقال، بمعناه وأرادَ عن طريقه أن يفهمنا أن الصلاة الإبراهيمية هي الصلاة الوحيدة المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث له سياق خاص يتعلق بتعليم الصحابة كيفية الصلاة عليه في التشهد الأخير من الصلوات المعهودة الفرضية منها والنافلة. وهذا ما أفصحت عنه الروايات الحديثية الشريفة الصحيحة نقتطف منها رواية الصحابي الجليل سيدنا أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه الذي قال فيها: "أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن عنده فقال: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا على الله عليك. قال: فصمَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله، فقال: إذا أنتم صليتم فقولوا: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" .
هكذا أصبحت هذه الصيغة الإبراهيمية، ومنذ ذلك الحين، هي المعتمدة من طرف أهل السنة قاطبة في جميع صلواتهم فريضة كانت أم نافلة.
هذا مع الإشارة إلى أن الصلاة الإبراهيمية نفسَها ليست لها صيغةٌ واحدة كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل هناك صيغٌ عديدة لها أوصلها بعضهم إلى أزيد من أربعين صيغة، كلها مسندة ومستخرجة من كتب الحديث المعتبرة والمعتمدة.
ومما يؤكد على أن الصلاة الإبراهيمية جاءت في إطار تعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه كيف يصلون عليه داخل صلواتهم، أن هؤلاء الصحابة رضوان الله تعالى عنهم كانوا لا يلتزمون بهذه الصيغة الإبراهيمية حينما يريدون الصلاة عليه خارج صلواتهم، والحديث الذي بين أيدينا شاهدٌ على ذلك، فقد ختم السائل كلامه بالصلاة على رسول الله قائلا له: "صلى الله عليك"؛ كما كانوا لا يسلمون عليه صلى الله عليه وسلم بنفسِ الصيغة التي علمها لهم. فكلتا الصيغتين: الصلاة الإبراهيمية والسلام عليه محلهما واحد هو: التشهد. فلم يتقيد الصحابة رضوان الله عليهم بصيغة "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" حينما يسلمُون عليه، بل كان الواحد منهم إذا دخل عليه صلى الله عليه وسلم وأراد السلام عليه قال: "السلام عليك يا رسول الله" أو قال: "السلام على رسول الله"...إلخ.
هذا من جهة، و أما من جهة ثانية فإنّ كثيراً من الصحابة والتابعين كانت لهم صلواتٌ خاصةٌ بهم يصلون بها على حبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم دون أن يُنْكِرَ عليهم أحد، بل على العكس، كان الصحابةُ الآخرون يتعلمون هذه الصلوات الجديدة من أصحابها. وللتدليل على ذلك نسوق في هذا المقام نموذجين من هذه الصلوات. الأولى للإمام علي كرم الله وجهه، وهذا نصها:
"اللَّهُمَّ دَاحَيَ الْمَدْحُوَّاتِ، وَدَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ، وَجَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا؛ شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا، اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ، عَلَى مُحَمَّد عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، الْخَاتمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الاَْباطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاَتِ الاَْضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ، قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُم، وَلاَ وَاه فِي عَزْمِ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدَكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ والآثَام، وَأَقَامَ بِمُوضِحاتِ الاَْعْلاَمِ، وَنَيِّرَاتِ الاَْحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الَْمخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ.
اللهمَّ افسَحْ لهُ مَفْسَحاً في ظلِّك، واجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ الخَيْرِ مِن فَضْلِك، اللَّهُمَّ وأَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ، وَأَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ، وَأَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ، وَاجْزِهِ مِنَ ابْتِعَاثِكَ لَهُ مَقبُولَ الشَّهَادَةِ، مَرْضِيَّ المَقالَةِ، ذا مَنْطِق عَدْلٍ، وخُطّة فَصْلٍ. اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي بَرْدِ الْعَيشِ، وَقَرَارِ النِّعْمَةِ، وَمُنَى الشَّهَوَاتِ، وَأَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ، وَرَخَاءِ الدَّعَةِ، وَمُنْتَهَى الْطُمَأْنِينَةِ، وَتُحَفِ الْكَرَامَةِ" .
والنموذج الثاني لسيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الذي قال فيه:
إذا صليتُمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاةَ عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يُعرَض عليه، قال فقالوا له: فعلِّمنا، قال: قولوا: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَاتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" .
فهل يستطيع أحدٌ، أن ينعت هذين الصحابيين الجليلين ومن سَار على نهجهما في إنشاء صلواتٍ خاصة بهم ويتَّهِمهُم – حاشا لله – بالبدعةِ والضلال، أكيدٌ ليس في مقدور أيٍّ كان فعلُ ذلك وهم خريجُو المدرسةِ النبويةِ المحمدية.
ب) ومما استدل بهِ، صاحبُ المقال، في دعواه التي يرد بها "صلاة الفاتح" أن الفضائل التي أُعِدت للمصلي بها تفوق الفضائلَ المعدة لقارئ القرآن الكريم بكثير.
وبدل من أن يقف، صاحبُ المقال، عند هذا الكلام مناقشا ومُحللا ومتأكدا من صحته، مع الإشارة إلى مظانه والتطرقِ لما أثِير حوله، سابقا، من جدالات ونقاشات من طرف العلماء والعارفين؛ انساقَ، الأستاذ المحترم، إلى اتجاه آخر تحوَّل معه إلى ممارسة مهنة معلم للرياضيات يتفنَّنُ في استعمالِ جدولِ الضَّربِ، مُقارناً بين الحسناتِ التي سيحصُل عليها قارئُ القرآن الكريم مع تلك التي سيحصلُ عليها المصلِّي على النبي بصيغةِ "صلاة الفاتح" وهي مقارنةٌ جعلت القارئَ أو المتلقي وكأنه أصبحَ أمام مساعدٍ للحفظة الكرامِ المُكَلَّفين بتسجيل ما يقوم به العبد من أعمال وإحصاء ما يتلفظ به من أقوال.
وهذا، حسب اعتقادنا، نوع من الفضول لا يليق بالمؤمن الخوضُ فيه أصلا، إذ العبرة ليستْ بكثرةِ قراءة القرآن وحدها، ولا بكثرة الأذكار ولا الصلوات ولا غيرها، وإنما العبرة في هذا كله، بالإخلاص والصدق والقبول. فكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنُه والعياذ بالله، وكم من قارئ للقرآن لا تتجاوزُ قراءتُه حنجرتَه، وكم من قارئٍ مُراءٍ لا تنفعُه تلك القراءةُ في شيءٍ كما أخبرنا كذلك الصادقُ المصدوق صلواتُ ربي وسلامهُ عليه وعلى آلهِ في أحاديثَ كثيرةٍ مروية في هذا الشأن.
ثم إن الفضائل التي أُعدت لهذا الدعاء أو ذاك، أو لهذه الصلاة أو تلك أو لأي ذكر من الأذكار، حتى ولو كانت معروفةً أو مشكوكاً في روايتها أو أن أحاديثها لا ترقى إلى درجة الصحة، فإن ذلك لا يلزم عنه القول أو الاعتقاد بأن قارئ تلك الأذكار أو تلك الصلواتِ قد اقترفَ إثماً وارتكبَ مُنْكَراً يتوجب علينا زجرُه وتبديعُه وتفسيقُه ما دامَ أن نصَّ هذا الذكر أو هذا الدعاءِ ليس فيه ما يَخدِشُ في الثوابتَ العقديةَ لهذا الدين الحنيف.
ومما يؤكدُ ذلك، أن كثيراً من سور وآيات القرآن الكريم وردتْ فيها أحاديثُ تحثُّ على فضائلها وتتحدث عن ثواب خاص لقارئها، بل هناك مصنفاتٌ تناولت، وبإسهاب كبير، هذه الفضائلَ الخاصة بكل سورة على حدة، بدءا من الفاتحة إلى سورة الناس، مع العلمِ أن هذه الأحاديث لم يصح منها إلا القليلُ وفي حق عدد محدود من سور وآيات الكتاب المبين.
فهل يَصِحُّ، بناءً على منطقِ صاحبِ المقال، أن نقولَ: إنه ينبغي أن نقرأ السورَ والآياتِ القرآنيةَ التي لم يثبت في فضلها وثوابها حديثٌ صحيح. إن هذا كلام لا يتفوه به عاقلٌ؛ لأن المؤمن، أصلا، هو مطالبٌ بقراءة هذا الكتاب وبتدبُّره بغضِّ النظرِ عن فضائل تلك الآياتِ والسور التي يقرأُها، فالعاشقُ لكلام ربِّه مهووسٌ بحلاوةِ تلاوته، شغُوفٌ بسماعه والتأمُّل في معانيهِ دون أن يشغلَ بالَه بصحَّةِ تلك الفضائل أو عدم صحتها.
الأمرُ ذاتهُ بالنسبة للصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن مأمورون بالصلاةِ على حبيبِنا سواء كنا على درايةٍ بالأجر الذي أعد لنا أم لا. وسيكون ممتَثِلا لنداء ربه جلّ وعلا كلُّ من صلَّى على هذا النبيِّ الكريم بأية صيغةٍ كانت. فالدافعُ إلى الصلاة عليه هو التعظيمُ والتبجيلُ والمحبةُ والإجلالُ والتوقيرُ لهذا النبيِّ العظيم قبل التفكيرِ في طبيعةِ وعددِ الحسنات التي سيحصلُ عليها هذا المصلي. فالعبدُ الصادق والمؤمن الحق لا يرضى لنفسه أن يكون كالعبدِ الأجير، وهذه هي أحوالُ وأخلاق العارفين بالله في جميع عباداتهم ومقاماتهم، هؤلاء الذين يُكِنُّ لهم، صاحب المقال، عداوتَه المعلنة وكراهيتَه الصريحة في جميع كتاباتِه ومقالاته، ولا يتورَّع عن إطلاق أبشع النعوت وأشنع الأوصاف في حقهم غيرَ مُفرِّق في ذلك بين حيِّهم و ميِّتهم.
لقد أورد، صاحب المقال، أن الشيخ أحمد التجاني رحمة الله عليه تلقى فضائل "صلاة الفاتح" من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقظةً وقال له: "من قرأها (صلاة الفاتح) مرة واحدةً، نال نفسَ الأجر الذي يناله من ختمَ القرآن ست مرات"، ثم قال له مرة أخرى: "من قرأها مرةً واحدة حصل على أجر من ختم القرآن ستة آلاف مرة".
لن نُناقش هنا مسألة رؤيةِ النبي عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وهل هي إذا جازت في المنام، فهل تجوز في اليقظة أم لا؟ فهذا الموضوعُ بدوره أسال من مداد العلماء والعارفين بالله ما تزخرُ به رفوف عدد كبير من مكتباتنا العربية والإسلامية. كما أننا لن نُعالجَ مسألة الكشفِ الذي يحصُلُ لبعض العارفين وهل هو مُلزِمٌ لصاحبِهِ وحدَه أم مُلزم أيضاً لغيره من مريديه ومحبيه؛ فلنا عودة، إن أطال الله في العمر، إلى مثل هذه القضايا في مناسبات لاحقة.
ما يهمُّنا، هنا، هو المصدرُ الذي استقى منه، صاحبُ المقال، تلك القولةَ التي تتحدث عن فضائل قراءة "صلاة الفاتح" بكونها تفضُل تلاوة كتاب الله العزيز بكثير. إذ كان على، صاحبِ المقال، أن يدلَّ قارئه على مظانِّ هذه القولة، ويحيلَه على المرجع الذي توجد فيه، وهذه من الأبجديات الأولى التي يتوجَّب على أي كاتب أو باحث، الالتزامُ بها دونما حاجة إلى تذكير وتنبيه. ونحنُ إذ نلحُّ على ضرورةِ التحقُّقِ من نسبةِ تلك القولةِ إلى الشيخِ التجاني تحقيقاً علميا، فلِمَا نعلمُه ويعلمُه غيرُنا، من كثرةِ المدسوسات ومظاهر التزوير والكذب التي عرفتها المصنفاتُ التي تتحدَّثُ عن آثار الشيخِ وطريقتِه، كما في ذلك أشهر الكتب تعريفا بالطريقة التجانية مثل: كتاب "جواهر المعاني" للسيد علي بن حرازم الفاسي، وكتاب "الجامع" للسيد محمد بن محمد المشري، وكتاب "الإفادة المحمدية" لصاحبه السيد: الطيب السفياني.
فجميع هذه المصنفاتِ وغيرُها لم تسلمْ من عملية الدّسِّ والتزويرِ إما من طرف خصومِ الشيخِ الذين يسعون إلى النيلِ منه وتشويهِ طريقته، أو من طرف المنتسبين لهذه الطريقة ولكنَّهم يجهلون حقيقتَها، وهذا ما تفطَّن له الشيخُ التجاني رحمهُ الله بنفسه حينما سأله أحدُهم: "أيُكذب عليك؟ قال: نعم، إذا سمعتم عني شيئا فزنوه بميزان الشرع، فما وافقَ فاعملوا به، وما خالف فاتركوه" .
وهذا هو شأنُ العارفين بالله، تراهُم، دوما، يتبرؤونَ من كلِّ ما يُنسبُ إليهم من أقوالٍ وأفعالٍ يُشْتَمُّ منها رائحةُ المخالفة للشريعة المحمدية، ويؤكدون على عدم الاقتداء بأي شيخ حاد عن ميزان الشرع، بقول الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي رحمة الله عليه في هذا المعنى:
لا تقتدِي بالذي زالتْ شريعتُه
عنهُ ولوْ جاءَ بالأنبَا عنِ اللهِ
استنادا على ما سبق، لا يمكن لمن له أدنى مُسكة من العقل أن تذهب به الظنون إلى أن الشيخ التجاني، أو غيرهُ من الشيوخ المُقتدى بهم، أن يقولَ بأفضلية أي كلامٍ آخر على كلام الله تعالى بما في ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولعل إطلالةً قصيرة على حياة الشيخ التجاني رحمه الله تكفي للتيقُّنِ من أن الشيخ ظل طوال حياته يوصي تلامذتَه ومريديه بتلاوةِ القرآن الكريم ويحثُّهم على العناية به آناء الله وأطراف النهار، مُعْلِنا في أوساطِهم أن "أقل ما يجزئ حافظ القرآن حزبان" .
وقد عمل التجانيون بوصية شيخهم، فتراهم في جميع زواياهم يحافظون على قراءة هذين الحزبين من الكتاب المبين: واحد بعد صلاة الصبح والثاني بعد صلاة العصر مع الالتزام بختمه في كل جمعة.
وقد أجاب الشيخ رحمه الله إجابة واضحة وشافية عن مسألة المفاضلة هاته حينما قال له أحدهم: "ربما يطلع بعض القاصرين ومن لا علم له بسعة الفضل الناتج عن الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: إذا كان كما ذكرتم فينبغي الاشتغال بها لأنها أولى من كل ذكر حتى القرآن. فأجاب الشيخ: بل تلاوة القرآن أولى لأنها مطلوبة شرعا لأجل الذي ورد فيه، ولكونه أساس الشريعة وبساط المعاملة الإلهية ولما ورد في تركه من الوعيد، فلهذا لا يحل لقارئه ترك تلاوته، وأما فضل الصلاة التي نحن بصددها [أي صلاة الفاتح] فإنها من باب التخيير لا شيء على من تركها" .
وفي هذا السياق نفسه، نورد نص القصة التي حكاها السيد أحمد خجو العروسي في مؤلفه التي يقول فيها: "ولما كنت أدرس العلم في مدينة طنجة على شيخنا سيدي محمد بن عجيبة رحمة الله عليه، وصل بنا الحديثُ يوماً إلى أن تناولنا قصةَ تكفيرِ أحمد التجاني فأنكرها وقال: هذا كذبٌ وبهتان عظيم و حكى لنا القصة فقال: كان أحد تلاميذ سيدي أحمد التجاني يقرأ القرآن ويلحنُ كثيرا في القراءة فقال لتلميذه: أنت أيها التلميذ، صل صلاة الفاتح أفضل من قراءة القرآن بالنسبة إليك، ولا تقرأ القرآن حتى يكون حفظك متقنا مجودا"، فحكى هذا التلميذ الجاهل للتلاميذ ما وقع له مع الشيخ، وصار الاعتقاد السائد بينَ الجهلة ومن لا يحسن العقيدة: أن الفاتح أفضل من القرآن" .
قد يتساءل القارئ عن أسباب غياب مثل هذه النصوص والاستشهادات من كتابات، صاحبِ المقال، هل يرجع ذلك إلى عدم معرفته بها وعدم اطلاعه على مظانها؟ أم يرجع ذلك إلى إخفائها وتغييبها، والإدلاء فقط بما يؤيد مواقفه العدائية المسبقة تجاه أهل التصوفِ قاطبةً، ومنهم الشيخ السيد أحمد التجاني رحمة الله عليه الذي يعد ضحيته الراهنة في مقاله هذا؟
لن أضيف شيئا آخر على ما تفضلتَ به أخي السائل، ففي الشق الثاني من كلامك يكمن المراد ويقطن الجواب. إن، صاحب المقال، الذي يفتخر في جل كتاباته ومقالاته بعداوته السافرة لهؤلاءِ العارفين بالله ولكلِّ من يمتُّ إليهم بصلة، يَبذل قصارى جهده لاصطيادِ "كلمة" هنا أو هناك، أو "فكرة" منزوعة من هذا السياق أو ذاك، أو "جملة" من هاته الصفحة أو تلك، حاملاً مَعَاوِلَهُ التخريبية، مُعلناً بأنه يقوم بمحاربة "أهل البدع" و"أهل الأهواء" القدماء منهم والمعاصرين، الأحياء منهم والميتين، وكل ذلك تحت غطاء : "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ليقوم في نهاية المطاف بتوزيع بطاقاته التقييمية الجاهزة على ضحاياه، هذا زنديقٌ، وهذا ضال، وهذا مبتدع، وهذا مخبول، وهذا ظلامي، وهذا كذاب، وهذا مفترٍ؛ ليختم في الأخير بإشهار بطاقةِ الكفر والتكفير.
"ما هكذا توردُ الإبلُ يا سعدُ"، ليس هذا هو السبيلُ الذي أمرتنا شريعتُنا السمحاءُ باتباعهِ من أجل الدعوة إلى الله. فكيف يَترك، صاحب المقال، وراء ظهره ذاك القاموس المضيء ويتخلى عن تلك القاعدة الذهبية الساطعة: "ادع إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، ويلتجئ إلى قاموسِ الشتائمِ والسِّبَاِب والفظاظة والكلام البذيء. ألم يسمع قول المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، وهو حديثٌ رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة عن سيدنا ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. ألم يصل إلى أذن، صاحب المقال، حديث المربِّي الأول صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول فيه: "ليس المؤمنُ بالطعَّان ولا باللعَّان ولا بالفاحشِ ولا بالبذيءِ" كما جاء في "سنن الترمذي" عن ابن مسعود أيضا، إلى غير ذلك من الأحاديث الشريفة التي تحض المسلم على تجنب الفحش والتفحش وتحثه على الابتعاد عن البذاء والجفاء.
وهل يحتاج أيضا، صاحب المقال، وهو يُنصِّب نفسه آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، إلى من يذكره بقول الرسول الأكرم صلى اله عليه وآله وسلم: "لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبُه كذلك" . فأين عثر، صاحب المقال، في شريعتنا السمحاء على تكفير أهل القبلة؟؟ قل لنا، بالله عليك، أين وجدت ذلك؟؟ ألا يدري، أيضاً، أن التكفير من أعوص المسائلِ وأخطرِها ضرراً دنيا وأُخرى؟؟ وهل غاب عن ذهن صاحب المقال، أن علماءنا، وعلى طوال تاريخنا الإسلامي، يؤكدون على أنه "إذا وجد تسعة وتسعون وجها يشير إلى تكفير مسلم، و وجهٌ واحد إلى إبقائه على إسلامه، ينبغي للمفتي والقاضي أن يعملا بذلك الوجه، وهو مستفاد من قوله عليه السلام: ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة" .
هكذا كان علماؤنا الأفذاذ يحترزون أيما احتراز في مسألة التكفير هاته، ويرون أنها أمر مرفوض شرعا وعقلا، بل منهم من كان يغتنم الفرص السانحة ليعلنوا أمام الناس تبرئة ذمتهم من تكفير أي مسلم كان ويشْهِدونهم على ذلك. "فهذا الإمام زاهر بن أحمد السرخسي، أخصُّ أصحاب الشيخ أبي الحسن الأشعري، يقول: لما حضرت الوفاة أبا الحسن الأشعري في داره ببغداد، أمر بجمع أصحابه ثم قال: اشهدوا على أنني لا أكفرُ أحدا من أهل القبلة بذنبٍ لأني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يجمعهم ويشملهم" .
هذا كلام إمام الأشاعرة رحمه الله الذي قضى حياة حافلةً في مجال المُناظرة والمساجلةِ والحِجَاج مع مختلف المذاهب والفِرَق الكلامية وأصحابِ الحلل والنحل سواء منها الإسلامية أو غير الإسلامية، ومع ذلك، ها هو يُشهد أصحابه أنه لا يتهم أحدا من أهل القبلة بتهمة الكفر والخروج عن الدين؛ إذ "الكفر خصلة واحدة وهو: الجهل بوجود الباري" حسب القول المأثُور عن الإمامِ الأشعري نفسه.
شهادة أخرى نوردها في هذا السياق ليس فقط لقيمة مضمونها، بل وأيضا لقيمةِ ومكانةِ صاحبِها الذي مازال ينتسبُ إليهِ مُعظَمُ من يحملُ ألويةَ التبديعِ والتكفيرِ في عصرنا هذا، تلكم هي الشهادة التي أدلى بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في إحدى رسائله التي يتبرأ فيها مما نسبه إليه بعضهم من أنه يكفر مخالفيه من أهل الإسلام يقول فيها: "فمنها قوله: إني مبطل كتبَ المذاهب الأربعة، وإني أقول إن الناسَ من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني أدعي الاجتهاد، وإني خارجٌ عن التقليد، وإني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفِّر من توسل بالصالحين، وإني أكفر البوصيري لقوله "يا أكرم الخلق"، وإني أقول لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله، وإني أكفر ابنَ الفارض وابن عربي، وإني أُحرق "دلائل الخيرات" و"روض الرياحين" وأسميه "روض الشياطين" . جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم" .
ها نحن أمام موقف مشرف ينبئ عن عين الصواب والحكمة، نكاد نراه ولا نسمعه ولا نجده عند من يدعون الانتساب لهذا الشيخ رحمه الله. وهو موقف سيربك، لا محالة، عددا غيرَ قليل من أتباع السيد محمد بن عبد الوهاب وسيجعلهم يقفون إزاءه مترددين بين القبول والإنكار.
وتأسيا بسلوك هذين الشيخين وأمثالهما، ألا يمكن للأستاذ صاحب المقال، أن يطلُعَ علينا في يوم من الأيام المُقْبِلة بمقال أو رسالة أو كتاب، يعترفُ فيه، وبشجاعة علمية رصينة، بالأخطاء المرتكبة في حق كل مخالفيه، ويتنصل من جميع تلك الاتهامات وأنواع القذف التي ألحقها بإخوانه المؤمنين، الأحياء منهم والميتين، وذلك حتى يُقبِل على ربه طاهرا نقيا خفيفا من عبء وحمل أوزار تلك النعوت القادحة والأوصاف الجارحة المملوءة بها كتاباتُه ومقالاته. تلك هي أمنيتنا من الأستاذ راضي في ما ننتظره منه مستقبلا.
وقبل أن ننهي هذه الجولة القصيرة في دروب هذا المقال، نعود إلى عنوانه لنسأل صاحبه عن وجه الغرابة الذي يلح على وجودها في هذا الدعاء: أي "صلاة الفاتح".
ليتأمل معنا القارئ الكريم، في صيغة هذه الصلاة كما هي متداولة عند كل من يحفظها: "الله صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم". فهل يحتاج القارئ العادي هنا إلى بذل مجهود ليفهم معاني هذه الصيغة؟ هل توجد بها ألغاز وطلاسم تتطلب مهارة فكرية لفك شفراتها؟
إنها صيغة تتكون من كلمات عربيةٍ واضحة، سهلة، سلسة في متناول تلميذ في الصف الابتدائي، بحيثُ يستغني أثناء قراءتها عن كل معجم أو قاموس لغوي. كما أن مضمونها لا يتجاوز الحديثَ عن أوصاف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تتماشى وروح العقيدة الإسلامية، وهي أوصاف وخصال مستقاة من كتاب الله تعالى ومن كتب السير والشمائل المعتمدة لدى علماء الإسلام وفقهائهم.
فليست هناك إذن أية غرابة، لا في لفظ هذه الصلاة، ولا في مضمونها، لا في مبناها ولا في معناها.
نعم، إن الغرابةَ التي يصر، صاحب المقال، على وجودها تكمن في تقديرنا، في ما يلي:
1) حن زعملُ صاحبُ المقالِ أن الدعاء / الصلاة التي تختم بها الدروس الرمضانية هي "صلاة الفاتح" وحدها، وهذا مخالف لحقيقة أمر الواقع، فليست هذه الصيغة هي الوحيدة التي يتم بها الختم، بل إن الخَتْمَ تمُّ بصيغتين للصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتارة تُختار صلاة الفاتح وتارة يُختم المجلسُ بالصلاة الإبراهيمية.
2) ثم إن هذا الأمر لا يخص الدروس الرمضانية فحسب، بل هناك مجالس سلطانية دينية أخرى مثل المجلس المخصص لذكرى المولد النبوي الشريف، والمجلس الثاني المتعلق بالذكرى السنوية لوفاة المغفور له الحسن الثاني، فجميع هذه المجالس تختتم إما بالصلاة الإبراهيمية وإما بالصلاة الفاتحية، وذلك حسب اختيار أمير المومنين نفسِه. ولا ندري سبب تجنب، صاحبِ المقال، ذكرَ هذين المجلسين الأخيرين، هل يرجع ذلك إلى عدم علمه بهما أم لكونهما يُصنفان عنده ضمن خانة البدعة والضلال؟؟ وكلا الأمرين مدعاة الاستغراب.
3) ومما يستغربُ القارئ له كذلك، ذاكَ الوصف الذي وصف به، صاحب المقال، الحضرة السلطانية بكونها يمارس فيها "المنكر" علانيةً؛ لا لسبب لأنها تختم ب"صلاة الفاتح" هاته، هكذا وبجرة قلم يتحول مجلس العلم والذكر، لدى صاحبنا إلى مجلس منكر وضلال ضاربا عرض الحائط كل تلك الأحاديث الشريفة التي تنوه وتشيد بتلك المجالس مثل الحديث المشهور: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة... " إلخ الحديث.
4) وهذا يسلمنا إلى شكل آخر لهذه الغرابة يُطل برأسه بين سطور هذا المقال، ويظهر ذلك في سعي، صاحب المقال، لفرض وإملاء صيغة محددة لختم تلك الدروس الرمضانية، وهذا تطاول كبير وجرأة عظيمة لم نسمع بمثلها قط؛ إذ ليس من حق أي كان أن يملي على صاحب هذه المجالس ورئيسها طريقة ختمها ولا صيغة دعائها.
إن أمير المومنين، حينما يريد أن يختم مجالسه الدينية تلك، يقوم أولا، بتلاوة الآية الكريمة، "إن الله وملائكته يصلون على النبيء يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"، ثم يعقبها إما بالصلاة الإبراهيمية أو بالصلاة الفاتحية، وهذا دأبه في كل هذه المجالس. فعند اختياره للصيغة الأولى يكون متأسيا بحدة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم باعتبار أن الصلاة الإبراهيمية هي التي لقنها الرسول الأعظم لأصحابه لفظا ومعنى وهي التي خرجت من شفتيه الكريمتين، وهذا لا ينكرُه أحد. وحينما يختار الصيغة التالية يكون متأسيا أيضا بجده الثاني الذي هو الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ وذلك لأن الصلاة الفاتحية، وإن كانت صيغتها الراهنة والمتداولة مروية عن الشيخ التجاني رحمه الله، فإن مشربَها من مشرب صلاة باب مدينة العلم على حد الوصف النبوي للإمام علي رضي الله تعالى عنه. وقد أوردنا سابقا، النص الكامل لهذه الصلاة.
وعلى سبيل الختم نقول، إنه ما دام ليس هناك نصٌّ ينهى عن الصلاة على النبي بغير اللفظ الوارد عنه عليه الصلاة والسلام، فإن الأمر فيه سعة؛ وما دام أن أجر وثواب الصلاة عليه لا يقتصر على الصلاة الإبراهيمية وحدها، بل يحصل هذا الثواب والفضل لكل من صلى عليه بأية صيغة كانت، فلا داعي، إذن، للتبديع ولا للتفسيق ولا للتنكير على من صلى عليه بصيغة الفاتح أو غيرها، مما ينزعُ عن قاموسِ الشتم والسب والتضليل والتكفير أي معنى. هذا القاموس الذي يمجُّهُ ديننا مثلما تنفِرُ منه كلُّ فطرةٍ سليمة. لذا يحدونا أمل كبيرٌ في أن يتم تجنبه والتخلص منه في جميع كتابات مفكرينا وعلمائنا ومثقفينا؛ وذلك في أفق تأسيس وبناء خطاب ديني علمي متنور ومنفتح.
* باحث في الفكر الإسلامي وخطيب