لم تعد لرجال الدولة المغربية حرمة فوق الأراضي الفرنسية. فقد أرسلت هذه الدولة كوموندو مسلحا يلبس أقمصة واقية من الرصاص لتسليم استدعاء بالحضور أمام قاضية لمدير المديرية العامة لحماية التراب الوطني، في وقت لم يكن فيه هذا الأخير حاضرا بالسفارة المغربية بباريس.
وفتشت شرطة المطار في ثنايا ثياب وزير الخارجية صلاح الدين مزوار، عندما حط في باريس قادما من لاهاي، أجبروه على نزع حذائه وجواربه كأي مهاجر مشكوك في أمره.
وها هم اليوم يسمحون لمواطن يحمل معه كاميرا لكي يوثق «إنجازه» بالتسلل إلى غرفة بمستشفى عسكري محروس بشكل كبير، بالنظر إلى أهمية بعض المرضى الذين يرقدون داخله، لكي يضع باقة ورد ميت ورسالة مليئة بالشتائم لجنرال مغربي يتلقى العلاج هناك.
وحتى وإن كانت إدارة المستشفى قد رفعت دعوى قضائية ضد القبطان السابق مصطفى أديب، بتهمة الاقتحام بغاية الإيذاء، فإن الأذى قد وقع بعدما تناقلت وسائل الإعلام خبر هذه الإهانة الموجهة إلى مؤسسة الجيش المغربي وليس فقط إلى شخص الجنرال.
ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل إن الضابط السابق مصطفى أديب، وفي محاولة لإبعاد الأنظار عن حادث الاعتداء الذي تورط فيه، وضع شكاية ضد رئيس الدولة المغربية وشخصيات سامية في الجيش أمام القضاء الفرنسي، وسارعت وكالة الأنباء الفرنسية لنقل الخبر وبثه في قصاصة مطولة، حتى يصبح الخبر الأساسي هو شكاية أديب ضد المسؤولين المغاربة وليس الشكاية الموضوعة ضد هذا الأخير من طرف المستشفى وعائلة الجنرال، وهي الشكايات التي استمعت إليه الشرطة الفرنسية بخصوصها يوم الجمعة الماضي.
وطبعا فوكالة الأنباء الفرنسية تصفي حسابها العالق مع الدولة المغربية، بسبب سحب وزارة الاتصال لاعتماد مراسلها وتعرضه للتعنيف أثناء تغطيته لإحدى الوقفات الاحتجاجية بالرباط. ووكالة الأنباء الفرنسية هي الذراع الإعلامية الرسمية للدولة الفرنسية.
إنها رسالة واضحة من الدولة الفرنسية للدولة المغربية، مفادها أن رجال دولتكم غير مرحب بهم فوق التراب الفرنسي.
وكل من سيغامر منكم بالقدوم إلى دولة العدل والحرية والمساواة سيتعرض للتفتيش المهين والاعتداء اللفظي، هذا إذا لم يجد كوموندو مسلحا بانتظاره لاعتقاله وإحضاره أمام القضاء، للإجابة على شكايات لا أحد سيعرف من أين سيخرجونها له.
الدولة الفرنسية منزعجة على أعلى مستوى بسبب التحركات القوية الأخيرة للملك محمد السادس في العمق الإفريقي. وأحد أوجه هذا الانزعاج هو تنسيق باريس مؤخرا مع الجزائر، بخصوص الأزمة في مالي لتحجيم الدور المغربي.
وقد شاهدنا كيف ذهب وزير الخارجية الفرنسي فابيوس إلى الجزائر ولم يستطع مقاومة سلطان النوم في حضرة المسؤولين الجزائريين، وتحولت صوره وهو يرخي رأسه ذات اليمين وذات الشمال، إلى مسخرة في وسائل الإعلام الفرنسية.
فرنسا منزعجة أيضا من هذا الانفتاح المغربي المفاجئ على روسيا، العدو التقليدي لفرنسا، وعلى الصين، القوة التجارية الأولى في العالم والثانية اقتصاديا.
فقد ظلت فرنسا تعتبر المغرب حديقة خلفية تابعة للكي ضورصي، ولا حق للمغرب أن ينظر أبعد من باريس. اليوم هناك انفتاح على أعلى مستوى في الدولة على دول كانت إلى حدود الأمس غير مفكر فيها. كما أن فرنسا منزعجة من الحضور الفعال والشعبي للملك في قلب البركان الذي هز العالم العربي.
فعندما تتلقى فرنسا الانتقادات من السياسيين والإعلاميين التونسيين على موقفها المتخاذل من ثورة الياسمين وتواطئها مع بنعلي وزبانيته، نرى كيف أن الملك محمد السادس ذهب إلى تونس واستقبل فيها بحفاوة ونزل لكي يتجول في الشارع الذي انطلقت منه شرارة الثورة.
المغرب اليوم يوجد بين نارين، فنحن حلفاء استراتيجيون بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، ونحن أيضا شركاء اقتصاديون لفرنسا. ولذلك فالصراع بين هاتين القوتين على مصادر الطاقة في إفريقيا، يجعل اقتراب المغرب من أحد الطرفين باعثا حقيقيا على انزعاج الطرف الآخر.
أمريكا لا تنظر بعين الرضى للانخراط العسكري لفرنسا في مالي وإفريقيا الوسطى، دفاعا عن مصالح شركاتها العاملة في مناجم الأورانيوم والغاز والبترول. وفرنسا لا تتقبل هذا الغزو الأمريكي لمستعمراتها السابقة.
وهكذا نرى كيف أن كلا من فرنسا وأمريكا تتنافسان على خلق حلفاء لهما داخل النخبة المغربية. فرنسا تمنح الأوسمة للجامعيين والمحامين وتستقبل القضاة، وأمريكا تستعمل أذرعها الحقوقية لمنح الجوائز لصحافييها المغاربة المفضلين وتعطيهم المنح الجامعية لكي يتابعوا دراستهم في جامعات أمريكا على حسابها.
وكما أن هناك شيئا اسمه «قدماء المحاربين»، فاليوم تحاول كل من واشنطن وباريس صناعة «محاربين جدد» يمكن استعمالهم في معارك الطرفين ضد المغرب، من أجل الضغط عليه في الجانب الذي يؤلمه أكثر ويجيده الغرب ونقصد الجانب الحقوقي.
لكن السؤال الذي يبقى مطروحا حول توقيت وضع القبطان السابق مصطفى أديب لشكايته التي يتهم فيها المسؤولين المغاربة بالتعذيب والمعاملة المهينة. لماذا لم يقم بوضع هذه الشكاية قبل الاستماع إليه من طرف الأمن الفرنسي على خلفية اقتحامه للمستشفى بغاية الإيذاء، وهو الذي يقيم في فرنسا منذ سنوات طويلة؟ اليوم فقط تذكر أنه تعرض للتعذيب والمعاملة المهينة؟
عندما نعيد قراءة عناوين بعض الصحف والمجلات التي صدرت حول «اعترافات» الضابط السابق أديب، نتخيل أن أديب قد فضح الذين كانوا يختبئون وراء حربه المعلنة على الفساد في مؤسسة الجيش. ومنذ أن أصدرت مجلة «جون أفريك» حوارا مع القبطان السابق أديب، وعنونته هكذا «القبطان السابق أديب يتهم»، وقدمت له قائلة «بعد ست سنوات من إطلاق سراحه، «القبطان الحر» السابق يفضح الوعود الكاذبة للأشخاص الذين استعملوه، في مرماه يوجد إدريس البصري والأمير مولاي هشام».
وقد كان المدهش في تلك الزوبعة القادمة من باريس، والتي أثارها القبطان السابق في فنجان بعض هيئات التحرير بالمغرب، هو التأويل والتحريف الذي أعطي لتصريحاته. فالرجل ينفي في كل الحوارات التي أعطى أي استعمال سياسي له من طرف البصري أو الأمير مولاي هشام، وأن ما دفع به إلى كتابة رسالة «يفضح» فيها الراحل إدريس البصري والأمير مولاي هشام، هو عدم وفاء هذين الشخصين بوعودهما تجاهه.
فما هي هذه الوعود التي قطعها البصري قيد حياته والأمير مولاي هشام على نفسيهما، تجاه القبطان السابق أديب، والتي لم يفيا بها.
بالنسبة للبصري فقد وعد القبطان السابق بمساعدة مالية وبالتوسط له عند الاتحاد الأوربي. أما الأمير مولاي هشام فقد وعده بمساعدة مالية قدرها حوالي مائة مليون سنتيم، لكنه لم ير منها سوى الربع. ولهذا قرر أن يخرج عن صمته ليفضح هذا التماطل. بالنسبة للبصري فلا يجب أن يؤاخذه القبطان السابق على عدم وفائه بوعده، لأنه اليوم في دار الحق، والكفن كما يعرف القبطان السابق ليست فيه جيوب. لكن إذا كان الكفن بدون جيوب، فإن للقبطان السابق اقتراحا آخر لتحصيل «دينه» من البصري، ولذلك قال في حواره مع إحدى الجرائد إنه ينتظر من ورثة البصري أن يدفعوا إليه المال الذي وعده به فقيدهم.
أما بالنسبة للأمير مولاي هشام، فالقبطان السابق غاضب عليه لأنه لم يدفع له سوى ربع المبلغ الذي وعده بمساعدته به. وبسبب ذلك يوجد اليوم على حافة الإفلاس، بعد أن تعذر عليه الحصول على عمل في مجال الاتصالات الذي درسه بباريس.
عندما نتأمل تصريحات وحوارات القبطان السابق أديب، نشفق فعلا على الرجل. وعندما نرى التحريفات والتأويلات التي أعطاها بعض الذين تعودوا كراء أقلامهم، نشفق عليهم أيضا. فالقبطان السابق الذي ارتبط اسمه بالتنديد بالفساد داخل الجيش، لا يطلب اليوم في منفاه الاختياري بباريس أكثر من مساعدة مالية. أكثر من ذلك، إنه يطالب من وعدوه بالمال بأن ينفذوا وعودهم.
نعرف أن وضعية قبطان سابق عاش تجربة الاعتقال وهاجر إلى فرنسا ودرس وحصل على دبلوم لم ينفعه في الحصول على وظيفة، هي وضعية معقدة وصعبة. وهي وضعية تشبه كثيرا وضعية الآلاف من الأطر المغربية المهاجرة في أوربا وكندا وأمريكا. الله يحسن العون.
ونعرف أن كثيرا من الناس قد يوهمون البعض بإمكانية مساعدتهم في فترة من فترات حياتهم الحرجة. لكن هذا لا يعني أن كل من وضع يده في جيبه ولم يعثر على ما يسدد به ثمن القهوة، سيخرج على الناس في الجرائد لكي يفضح أصحاب الحسنات الذين اقترحوا مساعدته ماديا ذات وقت ولم يفعلوا.
على القبطان السابق أن يكف عن البكاء والعويل في الجرائد والمجلات لمجرد أن أشخاصا وعدوه بالمال ولم يفوا بوعودهم. إذا كان أديب يريد الحصول على المال، فما عليه سوى أن يشمر عن ساعديه ويشتغل أينما وجد، مثلما يصنع كل الرجال عندما يقررون الهجرة. عوض التذرع بالوعود من أجل استجداء المال السهل.