“شفتي اللي ما بغيناش دابا؟” كل الأنباء القادمة من الموصل وتكريت، تقول شيئا واحدا: تتار العصر الجديد يستعدون لدخول البغداد الجريحة مرة أخرى، بعد أن دخلوها وأحرقوا الكتب فيها وأزالوا كل آثار الحضارة منها في الزمن التاريخي الأول.
هولاكو اليوم ليس بعين قرصان واحدة، والتتار ليسوا قادمين من بلاد واحدة بعيدة. التتار اليوم قادمون من كل البلدان، وهولاكو العصر بلحية مسدلة على النحو الدراماتيكي للأشياء، وبعين لا ترى إلا المنكر والحرام، يقطف رؤوس المسلمين ويقول “ليسوا مسلمين”، يتزوج الصغيرات ويلقي بهن سبايا في يد الأتباع. يحلل الحرام، ويحرم الحلال، ويعلن أنه القادم إلينا بالديانة الجديدة، وأننا مخيرون بين الانضواء في الركب الظلامي غير القادر على الإبصار، أو الموت.
للعراق في النكهة، في النفس، في الوجدان شيء صعب على الوصف، عصي على الحديث، أكبر من القول بكثير.
للعراق طعم الحب، وطعم الكأس المراقة بحدب على جنبات التملي بطلعة الحسن والجمال، للعراق المتنبي يوما والجواهري يوما آخر، وللعراق رصافي وناظم الغزالي ثم كاظم، وللعراق ملايين الأبيات الشعرية قيلت وتقال وستقال دلالة أن هذا البلد ليس صدفة، ليس طارئا، ليس شيئا جادت به فجأة سماء عابرة والسلام.
العراق أيها السادة، حكاية ملء القلب والعقل والفم والحنين. لذلك وحين تسقط مدن العراق في يد داعش، ويقال لنا إن الزحف سيستمر حتى الجنوب من أجل دخول بغداد، نترحم أولا على صدام حسين. ننسى أنه كان ديكتاتورا قاتلا أباد آلاف الأكراد والعراقيين. ننسى أنه شيد قصوره على مرمى ومسمع من بؤس العراقيين. نتذكر له فقط أنه كان قادرا على صد هذا الظلام القادم على أجنحة بؤسنا الحالي إلى الحكم.
أعترف بكل رعب أنني أحسست الأمر كما لو قيل لي لاقدر الله: إن داعش على أبواب الرباط، وأنهم يستعدون للزحف على العاصمة المغربية.
هذا رغم أنني لم أضع رجلا يوما في العراق، فلست ممن كانوا يقفون في صفوف سفارات صدام من أجل الحصول على “سعاية النضال القومي”، ولم أكن، وعلى ما يبدو لن أكون أبدا، ممن يتقاضون المقابل من أجل المدح والذم واختلاق الشعارات الكاذبة وقيادة المسيرات في العواصم مع وضع الكوفية على الكتف والإلحاح على المصورين أن “صوروني، صوروني الله يرحم الوالدين”.
لا، كل ما يجمعني بالعراق ابتدأ منذ الصغر عبر “المزمار”: مجلة موجهة للصغار قادتني رحلة القراءة الأولى الساذجة فيها وأنا صبي لم أبلغ الحلم بعد إلى اكتشاف بلد يعني له النشر والقراءة الشيء الكثير، فلم أتوقف يوما عن ازدراد ما جادت به عراق صدام والبعث لدواعي إيديولوجية، و أقبلت عليه وأقبل عليه جيلي كله لدواعي معرفية .
بعدها التقينا العراق حيثما وضعنا القدم على مكان فيه حضارة في التاريخ. كان البلد شامخا، كبيرا، دنانه ملئى بالمعتقات من عصير عنب دجلة والفرات الحضاريين.
في الأيام الكالحة التي حكم علينا بعيشها، بدأنا نكتشف الوجه الآخر للعراق، وفهمنا أن السياسة لن تتركه في منأى عنها، وأنه سيتعرض – مثل كل الأشياء الجميلة في بلاد العرب المخربة – للتدمير، للاغتيال، للمحو، وكذلك كان.
حملت إلينا الكاميرات أسماء وصور الزرقاوي يوما، ورأينا الذبح الذي كنا نعتقده مخصصا للخرفان يوم عيد الأضحى يخصص للناس لأنهم لم يقولوا الشهادة، ثم رأينا الديكتاتور نفسه يساق يوم العيد الكبير إلى مقصلة الأمريكان، وبعدها أصبح عاديا أن نرى القتل في العراق في كل مكان، إلى أن حملت إلينا آخر الأنباء خبر تقدم داعش ومجاهديها إلى الموصل وتكريت في أفق الدخول إلى بغداد.