أولا : حكام الجزائر وعقدة الاستعمار المغربي :
ما أن بدت ملامح الملتقى الدولي الثالث للمنتسبين للطريقة التجانية بمقر الزاوية التجانية الكبرى بمدينة فاس المغربية المقرر عقده ما بين 14 ماي و16 منه عام 2014 حتى تحرك حكام الجزائر ينددون بالاحتلال المغربي للطريقة التيجانية الجزائرية المصنفة تحت بند تصفية الاستعمار الروحي الذي يمارسه المغرب عليها بدون موجب حق وضد الشرعية الدولية !!!!! ...
وعلى سبيل النكتة فقد عُلِمَ من مصادر صحافية جزائرية على رأسها قناة النهار وقناة نوميديا نيوز التابعة للأمم المتحدة برئاسة أمينها العام المدعو سليم رياض أن الخليفة العام و الممثل الأعلى للطريقة التجانية سيدي الشريف علي الملقب بلعرابي التجاني بعين ماضي بالاغواط الجزائرية قد بعث رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة عن طريق وزارة الخارجية الجزائرية من أجل المطالبة بتوسيع صلاحيات المينورسو لتشمل الزاوية التجانية بالحومة المعروفة بالبليدة من محروسة فاس المغربية وذلك لاسترجاع الحقوق الثابتة وغير القابلة للتصرف لصاحبها الممثل الشرعي الوحيد للطريقة التجانية في العالم المدعو بلعربي التجاني ، وقد جاءت هذه الرسالة بعد البلاغ الذي صدر عن وزارة الخارجية الجزائرية الذي نددت فيه باحتلال المخزن لحاضرة الزاوية التجانية بفاس والمطالبة بتقرير مصير المريدين التجانيين ....
ومعلوم أن هذا النزاع بين الجزائر والمغرب عمره 200 سنة أي منذ وفاة القطب الرباني الشيخ أحمد التجاني بمدينة فاس المغربية عام 1815 حيث اختار بمحض إرادته أن يقضي بقية حياته بها وأن يدفن بحاضرة فاس والكل في فاس ...
ثانيا : بين صفاء الروح وتكلس الأدمغة :
كلما فكرت المملكة المغربية بعقلية التوحيد وجمع الشمل سواء بالخيط الأخوي الدموي أو بالخيط الديني الناظم وبمنهجية تشاركية وبصفاء الروح بعيدا عن الحسابات المادية الضيقة عاد حكام الجزائر إلى شعارات السبعينات التي أُقْبِرَتْ بعد انهيار جدار برلين تلك الشعارات البالية التي تكرس البلقنة والتفتيت بالغوغائية الشعبوية وشراء الذمم .
وقد لاحظ العالم ردة فعل حكام الجزائر حينما طاف ملك المغرب بعدة دول إفريقية ولاقى ما شاهده العالم من حرارة الترحاب التلقائي في تلك الدول الإفريقية ، إذاك غضب حكام الجزائر مغتصبوا الثورة الجزائرية ومعتنقوا الماركسية والإلحاد الجاثمون على صدر الشعب الجزائري وسارقوا خيراته وأمواله ، غضبوا لأنهم أدركوا أن الصح الصحيح خطرٌ عليهم ، الصح الصحيح الذي يكمن في نقاء السريرة بنهج السياسة الإنسانية الشفافة بعيدا عن المكر والخبث والكيد للجيران والنقمة عليهم حقدا وحسدا من عند أنفسهم ، فكلما نهج المغرب سياسة جمع الشمل إلا وكانت سياسة حكام الجزائر تدفع في اتجاه التشتيت والبلقنة والانفصال ، فالطريقة التجانية المنتشرة في العالم والتي يجتمع أهلها اليوم بمدينة فاس المغربية شاء من شاء وكره من كره ، هذه الطريقة ليست ملكا لأحد ، فماذا يضير حكام الجزائر لو اقتنعوا بالحقيقة التي تفقأ عيونهم وهي وجود ضريح الشيخ سيدي أحمد التجاني فعلا بفاس المغربية ومند 200 سنة ؟؟؟ ماذا يضيرهم لو انخرطوا في التجمع العالمي كغيرهم من المريدين ومحبي السلم والصفاء الروحي ، فلو انخرطوا في هذا التجمع العالمي سواء كان بفاس أو تونس أو طرابلس أو دمشق أو بغداد أو في أي بلد يضم رفات الشيخ سيدي أحمد التجاني ، لو انخرطوا كان عليهم أن يحضروا بقلوب خاشعة وعيون دامعة ، لكن الذين قست قلوبهم وذبحوا 250 ألف جزائري في عشريتهم السوداء ، وشردوا أكثر من ضعف هذا العدد إضافة للمفقودين الذين لا يعرف أحد مصيرهم كل ذلك دون أن يرف لهم جفن ، هل يملك هؤلاء قلوبا تخشع وعيونا تدمع ؟ إنهم يتمادون في تأكيد قساوة قلوبهم بتشبتهم بجريمتهم النكراء في قضية الصحراء بالبحث الدائم عن تأبيد عذاب المحتجزين الصحراويين في تندوف صيفا وشتاء منذ 40 سنة ... إن حكام الجزائر أعطوا الأدلة تلو الأخرى بأنهم ناشروا ثقافة القحط السياسي بين الجزائريين ( مهزلة العهدة الرابعة ) وتربية التكلس الفكري باعتناق الإلحاد خيارا استراتيجيا لشعب مسلم منذ الاستقلال المزعوم عام 1962 وذلك بنشر شعارات منافية للدين مثل الدين أفيون الشعوب ( هل يستطيع بوقطاية أن ينكر اعتناقه لذلك الشعار ؟ )... إن حكام الجزائر كانوا وما يزالون يحتقرون كل شئ له علاقة بالدين الإسلامي بل بعضهم يجاهر صراحة بعدائه للإسلام ، لكنهم لا يتورعون في توظيف الدين إذا تعلق الأمر بمعاكسة المغرب وهي العقيدة الراسخة في عقولهم وقلوبهم ....
ثالثا: هل يستطيع حكام الجزائر محو صورة فاس من عقل ووجدان التجانيين في العالم ؟:
قال أحد المنخرطين في الاجتماع الدولي الثالث (2014 ) لأتباع الطريقة التجانية بفاس وهو ليس مغربيا ولاجزائريا :" إن الله اختار هذه الأرض الطيبة لتلك النفس الطيبة ، اختار الله أن يدفن الشيخ سيدي أحمد التجاني بمدينة فاس" ... فهل يستطيع حكام الجزائر أن يقفوا ضد إرادة الله ومشيئته ؟؟؟
ولد سيدي أحمد التجاني في عين ماضي بالاغواط فيما يعرف اليوم بدولة الجزائر ، لكنه اختار أن يقضي بقية عمره بمدينة فاس المغربية حيث نبغ واشتهر وتصوف حتى توفي بها رحمه الله ، والعالم كله لا يعرف الطريقة التيجانية في التصوف الإسلامي إلا مقترنة بمدينة فاس واليوم يتحرك حكام الجزائر مطالبين بحقهم في الشيخ سيدي أحمد التجاني دفين فاس ، لكنهم يجهلون حقيقة راسخة وهي أنهم لن يستطيعوا نقل صورة التصوف التجاني الراسخة في مخيلة المريدين التيجانيين في العالم ، لن يستطيعوا نقلها من فاس إلى غيرها من المدن الجزائرية ، وكل محاولة لحكام الجزائر لنقل تلك الصورة فهي من باب الحمق والنزق والرهق الفكري الذي عُرِفَ به حكام الجزائر لأنهم يفتعلون القضايا ويخلقون المشاكل كلما تعلق الأمر ولو بنقطة صغيرة جدا تُذكر فيها المملكة المغربية .ففي الوقت الذي كان المغاربة يحتفون بالشيخ سيدي أحمد التجاني ويرددون أوراده ويعملون على نشر طريقته في كل بقاع العالم ، في ذلك الوقت كان حكام الجزائر يحتقرونه وطريقته ويعتبرونها شعوذة لأنهم اعتنقوا الماركسية والإلحاد ، والصوفية والإلحاد كالزفت والماء لا يلتقيان ، واليوم بعد أن فشل حكام الجزائر في مشروعهم الإلحادي الكافر وبعد أن استفاقوا على فشلهم الذريع في كل اختياراتهم الاستراتيجية منذ الاستقلال المزعوم عام 1962 ، اليوم يطوفون بجوانبهم للبحث عن طوق النجاة ولو كان ذلك على حساب إيديولوجيتهم المقبورة في وكرها ( الاتحاد السوفياتي ) ...
رابعا : لماذا رحل سيدي أحمد التجاني إلى فاس ؟
سيدي أحمد التجاني ولد في عين ماضي بالاغواط عام 1737 وانتقل إلى مدينة فاس المغربية ... لكن لماذا رحل سيدي أحمد التجاني إلى فاس ؟ لقد كانت فاس عاصمة للملوك العلويين منذ سنة 1727 ... وفاس والكل في فاس ، ولا يمكن أن تُذكَرَ فاسٌ دون أن تقفز للعقل والقلب صورة المعلمة العلمية جامعة القرويين ومشاهير العلماء وهم بالآلاف منهم : أبو عمران الفاسي – ابن باجة – ابن خلدون – لسان الدين بن الخطيب وغيرهم كثر في علوم الدين والشريعة والتصوف والطب وعلم الاجتماع وووو...الخ الخ .... لم يرحل سيدي أحمد التجاني إلى فاس في رحلته الأولى إلا بعد أن بلغ منتهى ما وصله علماءُ بلده في علوم الدين وأصوله والشريعة وفروعها والتصوف وطرائقه ، فلاحت له آفاق مدينة فاس الواسعة جدا ، وهي التي كانت تُغري كل متعطش للعلوم وكل راغب في التعمق والتبحر والنهل من العلوم من أفواه رجالها مباشرة فرحل إليها ، لأنه كما يقول فطاحل العلماء : " لا يؤخذ العِلْمُ عن صُحُفيٍّ " أي لا يجب الاعتماد على عالم أخذ علومَهُ من الكتب فقط لا غير ، لأن الكتب قد تحمل كثيرا من الخلط واللبس والتصحيف ، والعلم الحقيقي يؤخذ من أفواه العلماء مباشرة ، وذلك ما فعله كل فطاحلة الفكر العربي الإسلامي والتصوف السني ، إذ لا يُعتدُّ إلا بمن جالس العلماء مباشرة وناظرهم وحاورهم وذلك ما فعله الشيخ أحمد التجاني حينما قرر الرحيل إلى فاس حيث العلماء وجهابذة المتصوفين العارفين بالله ...
وقبل أن يستقر الشيخ أحمد التجاني بفاس نهائيا رحل إلى مكة والمدينة المنورة للحج وأقام قليلا بالقاهرة بمصر وتلمسان ومدينة سوسة التونسية لكنه فَضَّلَ أخيرا أن يستقر مع أسرته نهائيا بمدينة فاس حيث وصلها عام 1798 وعاش فيها مدة 17 سنة إلى أن توفي ودفن بها رحمه الله عام 1815 ...
خامسا : ولماذا اختار محمد أركون كذلك المغرب مستقرا له بعد أحمد التجاني ؟:
هذا السؤال يجب وضعه في سياقين : الأول يتعلق بتاريخ المغرب والثاني بحقيقة الجزائر في زمن حكامها الفاشيست بعد أكذوبة الاستقلال عن فرنسا .
1. اختيار سيدي أحمد التجاني لمدينة فاس فرضه عليه مكانة الدولة المغربية عامة، المكانة السياسية والعلمية والفكرية وتجذُّرِها في عمق التاريخ الضارب إلى أكثر من عشرة قرون أيام سيدي أحمد التجاني ، وكذلك مكانة مدينة فاس التي ازدهرت فيها العلوم بفضل رجالها وبفضل الذين قصدوها عائدين من الأندلس ... لقد كان سيدي أحمد التجاني حرا طليقا يتحرك بين المدن الإسلامية كيفما أراد واختار الإقامة النهائية بمدينة فاس زمن المولى سليمان بن محمد العلوي ( الذي حكم ما بين 1797 – 1822 ) الولوع بالعلوم الدينية التي ازدهرت في زمانه لأنه كان أحد أقطابها .
2. كثير من الناس ينعتون الدكتور محمد أركون بالفرنسي وهو جزائري ولا يمكن لأحد أن ينكر عنه جزائريته ، وكما اختار الشيخ سيدي أحمد التجاني إقامته النهائية بمدينة فاس المغربية ومات بها بعد قضاء 17 سنة ، كذلك اختار الفيلسوف الجزائري الدكتور محمد أركون مدينة الدارالبيضاء المغربية مرقدا أبديا له بعد أن عاش فيها بصفة متواصلة مدة 15 سنة ( توفي بباريس ودفن بالدارالبيضاء المغربية يوم 15 شتنبر 2010 ) ، إنه عاش بين المغاربة كمغاربي قح يحمل فكرا مغاربيا تشبع به أثناء إقامته بفرنسا حيث يعيش يوميا صور تلاحم المغاربيين في المهجر وتمناه أن يكون كذلك في الواقع الإيديولوجي الوحدوي للمغاربيين كافة في أوطانهم ، لكنه كان مقتنعا بأن حكام الجزائر كانوا يسعون دائما لخدمة التسلط والاستبداد بنشر ثقافة الضغينة والكراهية حتى تبقى أوصال الشعوب المغاربية مبتورة وإلى الأبد إرادة محمد أركون أن يموت بالمغرب ويدفن في الدارالبيضاء كانت اختيارا له دلالاته الرمزية ، لأنه كان مدة 15 سنة جزءا من النخبة المثقفة في المغرب يشاركها اهتماماتها الفكرية وأبحاثها ، كما أنه كان من أقطاب الدعاة للوحدة المغاربية التي يقف حكام الجزائر دونها ويشترطون لها شروطا مُعجزة ...
* إن النسق التاريخي والثقافي والسياسي الذي عاشه المغرب في الماضي ويعيشه اليوم في الألفية الثالثة هو الذي فرض على شخصيتين من أصل جزائري أن يختارا أرض المغرب الأقصى مدفنا لهما وهما الشيخ سيدي أحمد التجاني والفيلسوف الدكتور محمد أركون ، المملكة المغربية التي تفرض التميز الذي لا يمكن لأحد أن يحكم عليه إلا إذا عاشه من الداخل كما فعل الشيخ سيدي أحمد التجاني والفيلسوف الدكتور محمد أركون ، فهل يترك حكام الجزائر الشعب الجزائري حرا ليخلق هو أيضا تميزه أم يبقى عسكر الجزائر هو التميز الخانق في المنطقة المغاربية ؟؟؟
سمير كرم : الجزائر تايمز