وأخيرا يفر القذافي وأبناؤه جميعا من طرابلس كالفئران الوحشية عبر قنوات أرضية استهلك بناءها من قبل شركات أجنبية أموال الشعب الليبي الذي غلب على أمره على مدى اثنان وأربعين سنة إلا أسبوع واحد فقط عن احتفال القذافي ب : "يوم الفاتح العظيم" وما هو بعظيم؟؟ يوم أجهض الحلم الليبي والمغاربي العظيم في تحقيق وحدة الشعوب المغاربية باسم الاشتراكية العظمى (والعظمة لله وحده) والقومية الفارغتين من كل معنى سياسي وإنساني واجتماعي، وحكم على الشعب الليبي بالحديد والنار، كما فرخ من القلاقل والصراعات الداخلية بين الأمم والشعوب العربية، وساهم في خلق مجموعات متناحرة ما زالت إلى حد الآن عواقبها تتجرع مرارتها بعض الدول العربية والمغاربية على وجه الخصوص.
فر القذافي إذن، وذلك ما كنت أتوقعه، منذ الشرارة الأولى لأحرار عمر المختار الأبرار، الثوار الأبطال الذين دخلوا طرابلس دخول أبطال الحرب الضروس التي فتحها عليهم رئيسهم معمر القذافي مزهوين بنسيم الانتصار وعبق الحرية ونفس المستقبل المشرق لليبيا الجديدة ، ليبيا الحرية والكرامة الإنسانية ودولة المؤسسات الديمقراطية، ليبيا لجميع أبنائها وليس لأبناء القذافي فقط، وإلى الأبد، ليبيا لهؤلاء الأبطال الأشاوس.
الليبيات والليبيون الذين أبانوا عن علو كعبهم في القتال وفي الصمود وفي التناغم والانسجام، كما فعل أجدادهم يوم فرض عليهم الاستعمار الايطالي فأذاقوه مرارة الحرب وانتصروا على طغاة الطاليان، كما انتصرتم أنتم الآن على أقدم طاغية في العصر الحديث.
دخل الثوار الليبيون باب العزيزية عرين الطاغية ، معززين منتشين بطعم الانتصار حتى قعر بيت الزعيم، مشطوه دربا دربا، وقطعة قطعة، ولم يجدوا له أثرا، ولا لأبنائه ولا لباقي طغمته الفاسدين، فر الجميع خوفا من زحف الثوار، كما تفر الفئران من رائحة القطط، والجرذان من رائحة المبيد القاتل الفتاك.
القذافي الذي زرته مرة في خيمته على رأس وفد هام مكلف من قبل الملك الحسن الثاني في منتصف الثمانينات، وهو يهش على وجهه الذباب المفترض، حيث لا ذباب بداخل خيمته الإسمنتية الجميلة، وإنما وهم سكن قلب هذا الرجل قبل عقله ليوهم الناس على أن -عميد.. القادة العرب..؟؟ - يجلس في خيمة قلب صحراء قاحلة لا شيء فيها سوى الذباب ومختلف أنواع الحشرات البرية التي عانى منها الليبيون الأشاوس المغلوب على أمرهم طيلة أربعة عقود من الزمن. ولجت باب هذه الخيمة والوفد الرسمي المرافق لي وقد استقبلنا الزعيم الفاتح بحفاوة كبيرة، مرحبا بنا وبما حملناه له من أخيه الملك الحسن الثاني من أجمل التحيات وأطيب المتمنيات، حيث كانت اتفاقية الإتحاد العربي الإفريقي بين المملكة المغربية والجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى قد ضخت مياها صافية ومنعشة في شرايين العلاقة المغربية الليبية، فتحت آفاقا أرحب للتعاون والود بين الدولتين بعد ما تعهد القذافي بتجفيف إمداداته العسكرية واللوجستيكية لزعيم مرتزقة البوليزاريو والتي دامت لأزيد من عقد من الزمن.
ونحن في صلب الحديث حول أساليب تطوير علاقات البلدين في مجالات متعددة، حيث تشعب النقاش، حدث أن وقع ما لم أتبينه جيدا في منامي هذا فاستيقظت فزعا، خائفا، وكأني فعلا أضعت أول مهمة ديبلوماسية يبعثني فيها الحسن الثاني، ووجدت نفسي أني كنت أحلم فقط، وإني في بيتي في فاس، ولست أمام الزعيم القذافي ولا أنا مكلف بمهمة من طرف المرحوم الحسن الثاني، تعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وشربت شيئا من الماء عله يهدئ من روعي، وتمنيت عمرا مديدا لاتفاقية الإتحاد العربي الإفريقي وخيرا للشعبين المغربي والليبي.
إلا أن حلمي المفزع هذا أصبح حقيقة، ولم يمض عليه سوى بضع شهور حتى أعلن القذافي نهاية هذا الحب العابر بينه وبين الملك الراحل على إثر استقبال هذا الأخير لشيمون بيريز في يفرن الأطلسية بالمملكة المغربية، آزره آنذاك حافظ الأسد رئيس الجمهورية السورية في استنكارهما الشديد لهذه الزيارة، وهددا بقطع العلاقات مع المغرب، ودخلت العلاقة بين المملكة والجماهيرية في منعرجات غير محسوبة العواقب ومحفوفة بالمخاطر. إلا أن الانفراج الحذر في العلاقات المغربية الجزائرية إبان حكم الرئيس الشاذلي بن جديد، سرع من الإعلان عن ميلاد اتحاد المغرب العربي سنة 1989 بمراكش، فتح هذا الاتحاد الجديد فضاء أكثر رحابة من ذي قبل بين الدول المغاربية الخمس، وهو ما أرسى علاقاتهم على بر الاطمئنان المشوب الحذر.
لست أخفيكم الحقيقة، إن قلت لكم أني كنت من المدافعين والمعجبين بخطابات الزعيم القذافي، أيام دراستي الجامعية في مستهل الثمانينات، حيث كانت صوره لا تفارق غرفة نومي بالحي الجامعي بجامعة محمد بن عبد الله بوجدة ، وزاد هذا الإعجاب لما بعث لي بكتابه الأخضر، ودافعت عنه في مسيرات طلابية طيلة شهر كامل، كنت من نظمها بالحرم الجامعي على إثر الهجوم الأمريكي على ليبيا سنة 1986.
طبعا لم يكن لي آنذاك اطلاع واسع على ما يجري من أحداث في الأقاليم الجنوبية بالصحراء المغربية، حيث الدعم المتواصل للانفصاليين من طرف الزعيم القذافي ضد وحدة بلدي ، ذلك أن المعلومات والأخبار التي كنا نكتنزها كطلبة عن ما يجري في جنوب إفريقيا وفي مجمل الشرق الأوسط ، وخصوصا القضية الفلسطينية، أكثر من إلمامنا بقضية الصحراء، حيث أن الدولة كانت تحيط موضوع الصحراء الغربية المغربية بالسرية التامة، مما جعل غالبية الشعب المغربي يجهل أنذاك أسباب تعقيد هذا الموضوع، خصوصا نحن الطلبة، حيث كان الحصار مفروضا علينا حتى في حلمنا وتفكيرنا، فبالأحرى تحركاتنا التي كانت لا تفارق النسيج البوليسي المبثوث في كل الأمكنة والأزمنة،إلا من الريح الاشتراكية والشيوعية التي كانت تخترق مساحات من أفكارنا آنذاك،دون إعلان مسبق، وتمزق سكون فضاءات الحرم الجامعي المبثوث بسفح جبل سيدي معافة الذي يطل على الحدود الجزائرية المغربية، مع الشح القاتل في تنقل المعلومة وانعدام تام لوسائل الاتصال والتواصل الحديثة كما هو الشأن الآن، إلا ما تيسر من وسائل تقليدية كالمراسلات البريدية البطيئة والتواصل المباشر بين الطلبة الذين كان هاجسهم معرفة ما يدور في محيطهم المغاربي والعربي والإفريقي من معارك سياسية ودولية لا يحفلون وفي أحسن الحالات إلا بتلابيبها الممزقة لا تشفي الغليل.
وهو ما جعلني أبحث عن سر جفاء العلاقة بين المغرب وليبيا ، ولم يتبين لي الأمر جيدا وأنا لا زلت طالبا، إلا بعد الإعلان عن الإتحاد العربي الإفريقي الذي كان في حقيقة الأمر لعبة سياسية ذكية استغل فيها المرحوم الحسن الثاني طموح القذافي اللامتناهي في زعامة العرب والأفارقة على حد سواء في اتحادات كان يحلم بها في الليل ليطالب القادة العرب ثم الزعماء الأفارقة تنفيذها في الصباح على شكل ولايات متحدة إفريقية أو اتحادات عربية..، أوما إلى ذلك.
إقامة الإتحاد العربي الإفريقي بين المغرب والجماهيرية الليبية ربح منها المغرب أول نقطة في قضية الصحراء المغربية وخسرت منها الجزائر أهم حليف لها في دعم الجمهورية "الكرتونية" المزعومة،ولجم المغرب من خلال هذه الاتفاقية "الجماهيرية الخضراء" التي لم تعد كذلك الآن، عن إمداد جبهة البوليزاريو بالسلاح.
ومنذ تلك الفترة، وبعد هذا الحلم الجميل والمزعج في نفس الوقت، جميل ومهم أن تكون على رأس بعثة دبلوماسية كلفك بها الحسن الثاني، ومزعج أن تكون وجهة هذه البعثة خيمة القذافي التي تنطق بما لا تؤمن به، وتعد سفينتك بما لا تشتهيه رياحها، تلجها كأنك تلج فضاء عنكبوتيا يصعب عليك فك رموزها، فبالأحرى فك ذبذبات صوت زعيمها الفار في فيافي الصحراء هذه الأيام من صوت الثوار الأشاوس الذي يلازمه كالصاعقة الحارقة من "طرابلس" إلى "سرت" و"سبها" فإلى "بني وليد"، وبعدها إلى تخوم صحراء ليبيا الجديدة، حيث سيصعق كالفأر الفار من جحيم النار دون جدوى.
منذ ذلك الحين، وأنا أتتبع نشاطات القذافي السياسية، ودعيت أكثر من مرة كإعلامي مغربي للقيام بزيارة إلى الجماهيرية الخضراء، إلا أني كنت دائما أرفض تلك الدعوات، نتيجة ما كنت أسمعه من أحداث غير سارة، تصاحب مثل هذه الزيارات التي كانت تخصص للإعلاميين، وبعض المثقفين و...
وكذلك لإيماني بأن الزعيم مواقفه مهترئة وفيها شحنة من النفاق الأخلاقي قبل السياسي، وكيف لا وهو الذي حول" ليبيا عمر المختار"، و"ليبيا الملك إدريس السنوسي" إلى قرية صحراوية مشوهة المعالم، لا هي دولة مدنية حضارية حديثة، ولا هي بقيت على حالها وجمالها الطبيعي الصحراوي الأخاذ.
خيرات نفطها صرفها في أسواق خردة السلاح، وباعها في أكبر كباريهات الهوى والليالي الملاح، هو وأبنائه تضامنوا فأنفقوا وأسرفوا برا وبحرا وجوا على ذوات الحسن والوجوه الملاح، شرقا وغربا في فضاءات كلها زنا وبغاء ورياء ومكر وخداع وعنف، تلك كانت حياة ملك الملوك له لوحده ولأبنائه ولشرذمة من أهله وحشمه ، وليذهب الليبيون إلى الجحيم.
في هذا الجو المشحون بالنفاق والعنف والتقتيل، حكم "الزعيم الإمبراطور" الشعب الليبي الطيب على مدة أربعة عقود من الذل والإهانة بحق هذا الشعب، بيافطات سياسية فارغة من كل محتوى ، وبعيدة عن الواقع المعيش بعد السماء عن الأرض.
يوهمهم بتوزيع النفط سواسية بين المواطنين الليبيين عبر مؤتمرات شعبية وما هي بشعبية، يقول ذلك أمام كاميرات القنوات الإعلامية ومختلف وسائل الاتصال والتواصل، ليوهم الرأي العام بصحة ما يقول، ويحجم عن تنفيذ ذلك على أرض الواقع، وتلك قمة الغش والنفاق والخداع.
في زيارة لي لمصر المحروسة في العشرين من دجنبر من سنة 2006، كما يحب إخواننا المصريون أن يسموها، والذين انتصروا بدورهم في ثورة 25 يناير من العام الجاري على طاغية جثم على صدرهم ثلاثة عقود. زرت مصر في مهمة إعلامية، وبمكتب المرحوم سليم النمر أحد الفاعلين الكبار في الإنتاج الفني بالمهندسين، التقيت بأحد حفدة الملك السنوسي، آخر ملك حكم المملكة الليبية، قبل أن ينقلب عليه العقيد القذافي سنة 1969 من القرن الماضي، ودار حديث بيننا حول الأوضاع في ليبيا، والوضع المغاربي عموما،وهو يذكرني بعلاقة الأسرة السنوسية الحميمية بالمؤرخ والسفير المغربي آنذاك الدكتور عبد الهادي التازي، فكان واقعيا وهو يحكي لي ما يقوم به القذافي وأبناؤه من فساد إداري ومالي، وما يعانيه الشعب الليبي من ظلم وبطش من طرف هذا الطاغية.
وكان أن حكي من جملة ما حكي لي وبمرارة هذا الشاب الليبي المثقف المقبل على نيل الدكتوراه آنذاك ذي الأصل السنوسي، ما قام به أحد أبناء القذافي أسبوعا قبل وصولي القاهرة احتفالا بعيد ميلاده، ذلك أنه استقل طائرة خاصة به من ليبيا مملوءة بخليلاته ورفقائه في اتجاه القاهرة لإحياء حفلة عيد الميلاد ببلاد الكنانة، إلا أنه وبعد اطلاعه على الترتيبات الخاصة بحفله الباذخ، وقع ما لم يرق مزاجه، فحول وجهة طائرته إلى شبة الجزيرة الأيبيرية، ومعه رهط من الخليلات الحسناوات وغيرها والأصدقاء من ليبيا ومصر، وأقام حفلة عيد ميلاد ابن "ملك الملوك الأفارقة" في أضخم القصور بإسبانيا من أموال الشعب الليبي.
هذا غيظ من فيض مما كان يقوم به أبناء القذافي وحاشيته، وهم يحكمون الجماهيرية الخضراء، إلا أن وصف الزعيم لشعبه بالجرذان في مستهل الانتفاضة المباركة التي قلبت موازين القوى، وأبانت عن مكر وخديعة وشر هذا الطاغية، وجعلت السحر ينقلب على الساحر، فأصبح "ملك الملوك" وأبناؤه وحاشيته ومرتزقته هم الجرذان يفرون من صهيل الفوارس الأبطال في كل تجاه، منهم من يحاكم بتهمة الدخول غير الشرعي إلى تونس أرض ميلاد الثورات العربية، ومنهم من استعطف جنرالات الجزائر لاحتضانهم، ومنهم من فر إلى النيجر طالبا اللجوء السياسي، ومنهم من لا يزال يصارع الموت في صحراء بني وليد وعلى رأسهم كما سلف الذكر، الزعيم الفار وولديه سيف والمعتصم، وشرذمة من المرتزقة .فيما يسابق الثوار الزمن في ترتيب بيتهم من الداخل وتنظيفه من الأوهام والأشباح، وفتح ليبيا الجديدة على كل آفاق الخير والتضامن والتعاون والود والمحبة فيما بين كل الليبيين من أجل الاستعداد لمرحلة الجهاد الأكبر، محطة بناء وتشييد دولة متقدمة بمؤسسات تسع لجميع أبناء الشعب الليبي في ظل دستور ديمقراطي شعبي، يضمن الحقوق والحريات والكرامة للجميع على قدم المساواة.
عبد السلام العزوزي
صحافي وكاتب