بوتفليقة في الجزائر والسيسي في مصر. علينا الاعتراف أولا وآخرا أن فعل الانتخاب في الأوطان العربية أصبح فعلا فادحا وفاضحا. فقد تمكنا بفضل الله ورعايته من إدخال بعض الرتوشات الخاصة بنا على العملية الانتخابية إلى أن أصبحت انتحابية لامعنى لها سوى البكاء.
النتيجة: أضحت صناديقنا غير قادرة إلا على واحدة من كارثتين: أن توصل أناسا لا يؤمنون بالديمقراطية إلا إذا أوصلتهم إلى الحكم تحت مسمى الدين، أو أن تبقي في الحكم جنرالات أو من يتحكمون فيه إلى ماشاء الله من أزمنة.
في فرنسا أيضاً هاته الأيام انتخابات. هي ليست رئاسية مثل مصر أو الجزائر، لكنها محلية تنتج عمداء المدن ومسيرة بلدياتها، والنقاش الأكبر الدائر هناك هو كيف الوصول إلى جبهة جمهورية تمنع الجبهة الوطنية من تسجيل انتصار ولو رمزي لها قد يكون له انعكاس أكبر على رئاسيات 2017، وقد يصل بابنة جان ماري لوبين إلى الإليزيه، أي إلى الرئاسة مثلما تنبأ بذلك والدها.
الفرنسيون اليوم خائفون على بلدهم ليس من الديمقراطية، لكن من توظيفها من طرف الأفكار المنغلقة والرافضة للاختلاف من أجل تهديم كل ما بنته فرنسا لعقود طويلة وكرسته من قيم القبول بالآخر، بل وصدرته للبلدان والدول الأخرى، لذلك ترى النقاش هناك محتدا يروم الدفاع عن مشترك الناس وحاميهم: قيم الجمهورية.
لنعد إلى الديار العربية التي لا خوف فيها على شيء ولا هم يحزنون. في الجزائر الشقيقة عبد العزيز نوى ومر إلى الفعل، وقرر أن تكون عهدته الرابعة موصلة من المرادية إلى الديار الآخرة. الجنرالات لا يرون عنه بديلا، ولا يتصورون شكل رجل آخر غيره لقيادة بلد حكموا عليه منذ الاستقلال أن يبقى رهينة من يقبل لعبتهم، من بومدين إلى بوتفليقة، ويوم فكر الشاذلي بن جديد في بعض من خروج عنهم أقالوه، أما يوم صرح بوضياف بأن قدر المغرب والجزائر هو أن يتصالحا، فقد التفت جهة مصدر صوت مجهول في لقطة شهيرة، ثم خر صريعا على الأرض.
وحتى وإن صرخ كل الجزائريين “بركات”، فلن يسمع المتنفذون هناك إلا ما يروقهم، وسيواصلون تمهيد الطريق لمرشحهم، وسيكتبون صفحة مخجلة أخرى من صفحات تحويل الديمقراطية إلى وعاء نخفي فيه عيوب انعدام ثقتنا في الحرية وخوفنا منها.
في مصر لم يكن ضروريا أن يحكم القضاء على قادة الإخوان المعتقلين بالإعدام أربعا وعشرين ساعة قبل إعلان السيسي ترشيح نفسه لمنصب الرئيس. نعم، عانت المحروسة ويلات التشوه السياسي، وقدمت ثمنا باهظا لوصول جماعة لا تؤمن بالديمقراطية إلى الحكم، والدليل ما فعلته إبان تحكمها في البلد، لكن السؤال الذي يردده المصريون اليوم هو: أليس هناك طريق ثالث بين الموت على يد الإخوان أو الموت على يد العسكر؟
هم كانوا يحلمون بالدولة المدنية، لا الدينية ولا العسكرية، وكانوا يمنون النفس أن يكونوا الأقدر على تحقيق هذا الحلم لأول مرة في المنطقة بعد إسرائيل، وأن ينتقلوا بعد دستور 1919 الذي كتبوه في السنوات الاولى للقرن العشرين إلى كتابة طريقة ما لتنزيل هذا الدستور على أرض الواقع، لكن شيئا من ذلك لم يقع، و”أم الدنيا” اليوم محكومة بالمزيد من دوامة الفراغ القاتلة، وبغير قليل من انتظار المجهول سواء صوتت مرغمة لحذاء الجنرال أو احتمت باللحية السياسية الكاذبة.
كل ما يقع يطرح علينا السؤال واضحا وجريئا: وماذا لو كنا غير مؤهلين أصلا لهذا “الوهم” المسمى ديمقراطية؟
وماذا لو كان القدر هو أن نبقى داخل السقيفة إلى آخر الأيام نسائل بني ساعدة عن رأيها ونمضي؟
وماذا لو كنا محكومين بلعنة القميص المحمول على أسنة الرماح، مضمخا بدم عثمان وبالدماء الكثيرة التي سالت بعده؟
وماذا لو كنا فعلا غير مؤهلين للأمر؟
البعض سيقول إنها بوابة الديكتاتورية والاستبداد، لكنه القول المردود على مطلقيه بحجة الواقع، وببيان ما نحياه، وببرهان كل التطورات. فلحد الآن لم ينتج تعريب الديمقراطية إلا الكوارث التي تعرفونها، والعيب بالتأكيد ليس في الديمقراطية، لكنه في فرض تطبيقها على من لم يقتنعوا بها ولم يتشربوا مبادئها ولم يتربوا عليها يوما
وماذا لو كان حل هذا الدمار أن نصارح النفس بضرورة تبني كل منا للنموذج الذي يصلح له دون الاعتداء على مبادئ لا علاقة لها بنا؟
وماذا لو قلنا لأنفسنا يوما كل الحقيقة أو بعضا منها على الأقل؟