اثارتني تصريحات ادلى به الكاتب المغربي الفرانكوفوني الطاهر بن جلون خلال مشاركته مؤخرا في فعاليات المهرجان العالمي للاداب في برلين ،مفادها ان " الربيع العربي " في المغرب " لو صادف عقد التسعينيات لكان الوضع مختلفا تماما ،لأننا كنا نعيش في ظل حكم ديكتاتوري ، كما هو الحال في تونس ومصر ودول عربية أخرى "
.بيد ان بن جلون نسي ان يقول إن الملك الراحل الحسن الثاني كان اول رئيس دولة عربية يدق ناقوس الخطر، ويجري نقدا ذاتيا ، ويعترف ان بلاده معرضة لسكتة قلبية ان لم يتم تدارك الوضع السياسي السائد ،واعادة النظر فيه حتى لا تدخل في نفق ليس له مخرج.فكانت الخطوة الاولى نحو تحقيق التناوب التوافقي، الذي وضع حدا لاكبر وأطول سوء فهم بين الملك الراحل واحزاب المعارضة ،وضمان إنتقال سلس للسلطة ، ليكتشف المغاربة انهم اضاعوا عقودا من أعمارهم جراء تجاذب وتنافر الامزجة .
لذا، تبدو تصريحات بن جلون مثل عملية " سلق بيض" اعلامي ، أغفلت تفاصيل وخلفيات الثورة التي قادها الملك الحسن الثاني على نفسه، والتي توجت بتولي السيد عبد الرحمن اليوسفي قيادة حكومة التناوب، وهو تناوب لم يكتمل جراء تلبية الملك الحسن الثاني لنداء ربه ، واضحى مثل طبخة غير مكتملة ، على حد تعبير المستشار الملكي الراحل عبد الهادي بوطالب ،وتلك قصة اخرى ليس هنا مجال للحديث عنها .
نسي بن جلون أيضا ان الملك الحسن الثاني هو ابن زمانه وظروفه ، المحلية منها والاقليمية والدولية ،وان لكل زمن رجاله ،ولكل اسلوبه . فالملك الراحل استطاع بشخصيته الفذة وبعد نظره ان يقطع بالمغرب فيافي السياسة القاحلة ومنعرجاتها الخطيرة باقتدار كبير.وتمكن رحمه الله أن يمشي "على الحبل " في مراحل كثيرة من حكمه ،ونجح دائما في الخروج من عنق الزجاجة، و تفادى الوقوع في مطبات تحيط بالمغرب من كل حدب وصوب ، بدء بمؤامرات المقربين من اصحاب الثقة ، واندلاع نزاع الصحراء ،والعناد الجزائري المتواصل ، وتربص الجار الشمالي بقلق متزايد ، ووطأة ازمات مالية واقتصاديةلا ترحم ، اضافة الى سوء الفهم الكبيرمع احزاب المعارضة.
منذ عام 1975 ،تغيرت اشياء كثيرة في المغرب،وجرت مياه كثيرة تحت الجسر السياسي ،وزادت وتيرة التغيير تكبروتتوسع نحو افاق واعدة في عهد الملك محمد السادس،وهو امر لا ينكره سوى المصابين بعمى الالوان.صحيح ما زالت هناك مشاكل كثيرة مثل تفشي الرشوة والفساد والبطالة، وتردي خدمات الصحة ، وتدهور قطاع التعليم،وسطوة الشوائب التي تقض مضجع كل المغاربة الحالمين بعدالة عمادها الحق والقانون ، لكن القضاءعليها لن يتم الا بتظافر جهود الجميع ، دولة ومواطنين ، وقيامهم بالدور المنوط بهم،وتحمل كل واحد لمسؤوليته بأمانة وضمير صاف .
ان اكثر ما يغيض في تصريحات بعض المثقفين هو انهم يتحدثون عن الديكتاتورية،وعن سنوات الرصاص، بتضخيم كبير،وحدة لم يفصح عنها حتى اولئك الذين اكتووا بسعيرها،ويبدون من خلال خطابهم وتصريحاتهم وكأنهم ضحايا حقيقيون ل " سنوات سوء الفهم وتنافر الامزجة السياسية "
.والغريب، اننا في ايام الملك الراحل الحسن الثاني لم نسمع قط الكاتب بن جلون يصف نظام حكمه ب" الديكتاتوري ".فلو صرح بذلك في حياته لكان لتصريحه وقع اخر مثل وقع الحسام المهند .
لقد كانت تجربة حكم الملك الراحل حبلى باتراح واحزان تداعيات " المزاج السياسي "، بيد أنها كانت ايضا مزدانة بكثير من المنجزات.فهذه التجربة التي دامت 38 سنة ، لم تكن رمادية صرفة ،و لم تعرف فقط " نصف الكأس الفارغة " بل عرفت ايضا " نصف الكأس الممتلئة ".
ومن هنا تبدو "سنوات سوء الفهم " ليست مجرد نزوة عابرة بقدر ما كانت ثمنا تمت تأديته جراء مواقف طرفي الصراع السياسي ( الحكم والمعارضة )،وانا لست هنا لتبرير القمع وسياسة العصا الغليظة،بقدر ما أريد توضيح ان ما جرى من احتقان سياسي هو نتيجة حتمية للصراع ، فلا بد في النهاية من واحد منتصر واخر مهزوم يدفع ثمن مواقفه واختياراته ،لكن الملك الحسن الثاني اختار ان يكون المغرب هو المنتصر الحقيقي ، مغرب تنصهر فيه جهود كل ابنائه لمواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية لا يمكن قهرها الا بوضع الجميع يدهم في يد بعضهم ،ومن هنا جاءت كلمة السر "عبد الرحمن اليوسفي" ، لطي صفحة الماضي المكهرب ، وفتح صفحة جديدة في المنظومة السياسية المغربية، تلاها الاعتراف والكشف عن انتهاكات ماضي حقوق الانسان وتعويض المتضررين منها ، وهكذا دواليك،مضى المغرب قدما في التخلص من شوائب مزاج طبقته السياسية واشواكها .
لقد اعترف بن جلون،في تصريحاته لاذاعة دوتشيفليه الألمانية،ان المغرب هو الدولة العربية الوحيدة (طبعا قبل الربيع العربي ) التي تتمتع بالحرية،قبل ان يضيف:" انها ليست حرية مطلقة .. ولا توجد حرية مطلقة "،والحقيقة ان بن جلون لو كان يتابع بشكل يومي ما ينشر في صحف المغرب ومواقعه الالكترونية لإكتشف ان البلد تجاوز الحرية المطلقة الى الاباحية الاعلامية،واصبح التجريح والسب والقذف في حق الاشخاص والوطن عنوان المرحلة بامتياز،واختفت تبعا لذلك المسؤولية ،التي هي ديدن الحرية وممارساتها ،أو بالاحرى الخيط الرفيع الفاصل بينها وبين الاباحية.
ان التزام المثقفين والكتاب بقضايا المجتمع ليس وليد اليوم بل ظهر مع ظهور الكتابة ومفهوم الدولة وتزايد الوعي الانساني بالقيم الكونية،وفي ظل ذلك اضحت غالبية المثقفين مصبوغة بالحساسيةالزائدة والمفرطة ازاء أي إخلال بهذه القيم ، خاصة الاستبداد والطغيان ، ومن ثم فان التطورات السياسية التي عرفتها وتعرفها الكثير من الدول العربية ،تطرح تساؤلات حيرى عن الدور الحقيقي الذي ينبغي على المثقفين ان يلعبوه ، خاصة ان معظمهم ليسوا ساسة أسرى اجندة انتخابية تجعلهم يحرصون ،مثل الساسة التقليديين ،على رمي شباكهم في الاحواض الشعبية والشعبوية للظفر باصوات انتخابية،حتى لو اضطرهم ذلك الى التخلي عن افكارهم وارائهم وقناعاتهم، التي كثيرا ما بشروا بها ، وذلك ارضاء لنهم سياسي انتخابي لن يدوم طويلا .
ان السائد الان للاسف الشديد ، ولست موجها كلامي هنا للكاتب بن جلون ،هو ان بعض المثقفين ، تحولوا الى ثوار " اخر ساعة "،وركبوا قطار "ربيع عربي "ما زال يعاني من انواء وزوابع الشتاء،واصبحوا عامل تهييج بدل أن يكونوا الية ترشيد وتوجيه حتى لا يخرج ذلك الربيع عن سكته ومقاصده النبيلة الباحثة عن العدالة والرفاه الاجتماعي ، وترسيخ دولة الحق والقانون ، والتخلص بلا هوادة وبلا رجعة ، من زمن الحكرة وغياب الكرامة ، لان العودة الى ما قبل 14 يناير الماضي ،اليوم الذي بدأت تتساقط فيه اجزاء دومينو الحكم العربي المستبد، الواحدة تلو الاخرى،ستكون عودا أحمق الخطى بكل تأكيد.
ان المثقفين يبقون هم ضمير الامة،فإذا فقدوا بوصلتهم القيمية الرزينة ضاعت معهم الامة كاملة،ما داموا يشكلون واجهتها ومراتها،وصوتها الذي يعيد اليها التوازن المطلوب،كلما زاغ الحماس وانحرف بفئات عريضة من المجتمع عن سكة المبتغى والمأمول من ربيع العرب، وذاك لعمري هو المنتظر منهم دائما.