في أوروبا تشعر ابتكارات العلم وقيم الديمقراطية بالخجل والذعر . إنه الخجل من الإحباط في تحقيق وعود القرن التاسع عشر التي تنبأت بمستقبل أفضل للمساواة بين البشر، لا التطور العلمي نجح في كبح جماح اللاعقلانية، ولا الديمقراطية التي كانت تعد بالرفاهية والتسامح للجميع، نجحت في حماية قيمها التي تقتل بآليات الديمقراطية نفسها. وهو إحساس بالذعر من مستقبل يبدو فيه العقل مهددا بالتواري وراء الوجدانيات المتطرفة، كما أن الديمقراطية لاتضمن لنا ألا تعيد أشكال نازية وشمولية مبتكرة.
لقد كانت نتائج الانتخابات المحلية الفرنسية صادمة للجميع، اليمين المتطرف يخترق المجتمع الفرنسي وكوادره، إنه لايتقهقر من انتخابات لأخرى، على العكس من ذلك يزداد تقدما، وهاهو يصير اليوم، ومن موقع قوة ،حكما في حسم الصراع حول تدبير البلديات بما يعنيه ذلك من قدرة على انتزاع تنازلات قيمية موجعة للاشتراكيين وغيرهم. وفي هولندا تبدو صحوة النزعة اليمينية المحافظة مفزعة للجميع، فهاهو حزب النائب المتطرف غيرت فيلدرز مرشح لأن يصبح أول قوة سياسية في البلد، والمهاجرون أصبحوا محط نيرانه العنصرية الكثيفة. إنها لمذهلة حقا تلك الثقة والسلطة التي يشعر بها زعيم المتطرفين هذا، حتى والطبقة السياسية الهولندية كلها تستنكر حماقاته، لكن دون أن تكون قادرة على وقف مده الانتخابي الزاحف تحو العتصرية والتطرف.
وبعد فرنسا وهولندا لنا أن نتوقع الأسوأ في بلدان الأزمة الاقتصادية الأوروبية، إنه الخوف من هزيمة وعود التقدم التصاعدي للتاريخ ونحن على أبواب نكوص غير مسبوق، وإنها لأزمة وجود تتهدد قرونا من صراع الأووبيين من أجل مستقبل أفضل بواسطة العقل، وحياة أكثر تعايشا بفضل الديمقراطية.
وليست الأوصوليات اليمينية المتطرفة وحدها ذاك القلق الأوروبي الموجع، السياسيون البريطانيون والفرنسيون والبلجيكيون لايفهون حتى الآن ما الذي حدث بين ظهرانيهم، كيف يمكن لمراهقين تربوا في مجتمعات الرفاهية والديمقراطية أن ينبذوا حياتهم ويتحولوا إلى جهاديين في مالي وسوريا، وكيف لهم أن يتقبلوا بعدما كانوا يتهمون الآخر المتخلف بإنتاج القنابل البشرية أن تصير أناهم العصرية مصنعا مميزا لمعتنقي إيديولوجية الدم في الشام وفي الساحل والصحراء،
ماذا يعني لنا ذلك في الجنوب؟ إنها أزمة ظرفية على الأقل لنموذج ظل يلهمنا لعقود طويلة، إنه سقوط لنفس يقينيات حتمية التطور ونحن نرى كيف أن ما كان ربيعا عربيا من أجل الديمقراطية يصبح مصادرة أصولية وعسكرية لأحلام الحرية والدمقرطة بفعل النزعة الطائفية والايديولوجيات الماضوية، وكم هو مرعب ذاك الكابوس الماثل أمامنا: صعود اليمين المتطرف في الشمال وصعود الايديولوجيات القتالية والمنغلقة في الجنوب، أليس من حقنا الخوف من المستقبل وعليه؟ أليس من حقنا القول إن الأسوأ هو قيد التشكل فقط؟ أجل سنقول ذلك ونحن نتمنى أن نكون مخطئين.