نعم.
عندي عقدة من اليسار.
المسألة بالنسبة لي شخصية جدا وتفتقد إلى الموضوعية. أنا مغرض في هذه القضية بالضبط.وكلما سمعت كلمة يسار أتنرفز وتظهر دمامل وبثور في وجهي. مثل شخص يعاني من حساسية سمك أو بيض، أنا أمرض باليسار، والجذري منه خاصة.
المسألة هنا نفسية وتتعلق بطفولتي.
والسبب هو أسرتي وأشقائي الذين أثروا علي وأرغموني وأنا صبي أن أكون يساريا رغما عني. بسببهم كنت وبدل أن أشتري الحلوى، أهب لاقتناء صحيفة المسار أو الطريق لسان ما أصبح اليوم يسمى حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي.
لقد علمني هذا الحزب من خلال جريدته كيف أكره الاتحاديين، وكانت كل الأخبار تتعلق بهم، فهذا اتحادي سرق خروفا في خنيفرة، وذلك اتحادي آخر سرق دجاجة، ثم اتحادي متورط في فضيحة كذا.
وقد قضيت سنوات وأنا أحاول تجويد لغتي التي أفسدتها جريدة الطريق والمسار والأفق، وذلك بسبب ركاكة لغة اليسار المترجمة بشكل سيء، وما زلت لحد الساعة أعاني من تلك التركة، وأحاول التخلص منها قدر المستطاع.
وبدل أن يناضل حزب الطليعة ضد الطبقات المتحكمة والنظام، ضيع وقته ووقتي في تعقب أخطاء الاتحاد الاشتراكي، والخاتمة هي ما نراه اليوم.
لقد أقحمني أشقائي في عالم ليس لي، وحرموني من اللعب مع أقراني، ولن أسامحهم أبدا على هذه الجريمة في حق طفل صغير، كل همه أن يلعب ويجري ويلاحق الفراشات والحشرات والقطط.
وأنا طفل كنت متجهما بسبب اليسار.
كنت حاقدا وحزينا وأتظاهر بأني كبير.
وكنت أجدني كفضولي في التجمعات واللقاءات، أتصبب عرقا وسط زحمة اليساريين وحماستهم وشعاراتهم، وأكثر من مرة قطعت مسافات طويلة من أجل الوصول إلى شيء لا أحبه.
كنت أيضا أذهب كل سنة إلى فاتح ماي، وأنا لست عاملا ولا موظفا، بل مجرد طفل، ليس هذا مكانه، وكنت أتشعبط لأرى نوبير الأموي وهو يخطب، وأرى بوزوبع يفتح حقيبته، ويوزع، على ما أظن، الشهادات الطبية على العمال المنضوين في نقابته.
كنت وأنا طفل أحمل على كتفي مسؤولية تحرير العالم والمغرب. يا لغبائي ويا للهراء الذي ورطني فيه الكبار. وفي غمرة هذه الورطة، بدأت أكتشف أني لست يساريا، وفي داخلي يكمن يميني حر، كنت أقمعه وألغيه، بسبب تدخل أسرتي في قناعاتي، فأخذت على عاتقي مهمة تحريره من معتقل اليسار.
اليساريون كانوا يحبون الجماهير وأنا لم أكن أحبهم.
اليساريون كانوا يحبون التجمعات وأنا كنت مفتونا بالعزلة.
اليساريون كانوا يهملون الفرد، وأنا كنت مهووسا بالبطولات الشخصية.
اليساريون كانوا شجعانا، وأنا كنت جبانا ومنطويا على نفسي.
اليساريون كانوا يسعون إلى قلب العالم، وأنا كنت مع الثبات ومع بقاء الوضع على ما هو عليه.
اليساريون كانو مع القضايا الكبرى، وأنا كنت مهووسا بالتفاهات والسفاسف والأشياء الصغيرة والتي لا يهتم بها أحد.
لم يستشرني أشقائي ولم يطلبوا رأيي، أخذوني معهم وأقحموني عنوة، معتقدين أنهم يخدمونني ويربونني ويعتنون بي. وبسببهم ضاع مني نصف عمري في مذهب لا أستسيغه.
ولو تركوني أختار، وأنا طفل، ولو تركوني أتبع أهوائي، لكنت اليوم يمينيا ذا شأن، بدل هرولتي غير المفهومة والمتأخرة نحو المحافظين.
أنا فعلا أعاني من عقدة اسمها اليسار. وفيّ غل وحقد لا يمكن لأحد تخيله. وأستغرب أن يلتحق مراهق في هذا الزمن بحزب كالمؤتمر الوطني الاتحادي أو الطليعة. وأشفق عليه. على الأقل كانت هناك زحمة في الماضي وكان وهم جميل وكانت الأمور واضحة.
لم يكن بأمكاني أن أظل إلى الأبد قامعا لليميني الذي كان في داخلي، وكان من المستحيل أن أسجنه إلى الأبد، ترضية ليساري أعلنه أمام الناس، لكنه ليس أنا.
وشيئا فشيئا أخذت أتحرر، صارت لي بعض الشجاعة في أن أعبر عن محافظتي وعن يمينيتي ورجعيتي.
وصرت أتنظف بالتدريج من كل الكلام الذي حشوا به دماغي الصغير. قررت أن أرد إلى اليسار كل التعاليم والنصائح والأفكار والشعارات لأبدأ حياتي من الصفر. ضيعت نصف عمري، لكن لا بأس، والأهم هو أن أستغل ما تبقى.
لم يكن كاتب يساري يثيرني، ولم يكن شاعر ملتزم يحرك في أي حس، وعلى العكس من ذلك، كنت مشدودا إلى المبدعين البورجوازيين والأرستقراطيين والنبلاء.
وكنت بسبب أشقائي مضطرا إلى قراءة الأدب الملتزم، ومجلة الهدف والطريق، ولن أنسى أبدا أني تحملت قراءة كل تلك الحماقات التي كانت تأتي من الشرق، من لبنان وسوريا والعراق، وأنا مجرد طفل.
لو كان هناك عدل في المغرب لقبضت السلطة على أشقائي، واحدا واحدا، وحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها في حقي.
هناك ظلم في هذا البلد لم ينتبه إليه أحد، وهي الجرائم والاعتداءات التي يرتكبها اليساريون في حق أبنائهم وأشقائهم الصغار، والذين يرغمونهم ليصبحوا مثلهم، ويرددون مثل ببغاوات، كل ما يلقنونه لهم.
أنا أحتاج إلى تعويض وجبرضرر، ويوما ما سأذهب إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي لن يستمع إلي، لأنه يضم يساريين فقط، واليساريون عادة يرون أنفسهم ضحايا، ولا يملكون القدرة على رؤية ضحاياهم، الذين من بينهم أنا، وأشخاص آخرون كثر، لم يعترفوا بعد، كما أفعل أنا اليوم، ويترددون في إدانة أسرهم وفضحها.
يستغرب بعض أصدقائي من نزعتي المحافظة، إنها غلابة وتخرج لوحدها، تقاومني وتخرج أمام الناس، بعد أن صبرت علي لعقدين أو أكثر.
وإذا كان اليسار هو الحرية والعدل والكرامة، فأنا أريد أن أسترجع حريتي. وأريد أن أحاسب أشقائي واحدا واحدا، الذين جعلوا مني يساريا بالقوة. بينما يجري اليمين في عروقي... وأحب المال.. والنجاح
والاستهلاك.... وأحب أكثر أمريكا ....والرأسمالية ....والاستغلال ....والكوكاكولا ....والسجائر الشقراء ...ومهما تظاهرت، تغلب علي طباعي ودواخلي .فأضحك من وحدة اليسار... أضحك في عبي
وأقهقه كأي يميني من تعب اليسار ومن حرصه الأبدي على مساعدتنا نحن اليمين على النجاح وعلى السيطرة عليهم وإضعافهم. وإرغامهم على التكتل ثم الانشقاق في انتظار زوالهم إلى الأبد من هذه الأرض
ليخلو لنا الجو فالعالم كان في الأصل يمينيا وسيبقى.
وما يحدث في فترات من التاريخ ليس إلا أعراضا تزول مع الوقت.
حميد زيد كود.