رمضان مصباح الإدريسي
الهراكيري على الطريقة الجزائرية:
لم تنس الجزائر أبدا عشرية الدم والحديد ،التي أنست المواطنين – بقصد أو بدونه- في الدولة العسكرية الانقلابية التي أسستها جماعة تلمسان ،بعد أن تخلصت من القيادات التاريخية – وهي ذات شرعية ثورية شعبية – التي آمنت بأن جبهة التحرير حققت كل أهدافها ؛ولم يبق غير حلها – درءا للدكتاتورية العسكرية - لتفسح المجال للتعددية السياسية ؛باعتبارها شرطا أساسيا للديمقراطية.
فشل ارتدادي وانشطاري عم أنشطة الدولة كلها – بصفة خاصة المشاريع الكبرى للبومديينية- وأضعف جميع الشرائح الاجتماعية، عدا مؤسسة الجيش التي شكلت العمود الفقري للدولة ،وتضخمت الى درجة استوائها دولة أخرى وسط الدولة ؛بمقدرات مالية ضخمة ،وعتاد حربي أهلها لتحتل رتبة متقدمة جدا ،إفريقيا ودوليا. دون أن يعني هذا –وربما بسببه- أنها قوة عسكرية حقيقية ." ان عليا شجاع لكن لا علم له بالحرب".
دولة برؤساء غير الرئيس الظاهر،وبصلاحيات لا يحدها دستور ،ولا حدود الدولة المدنية . لا وجود في الحقيقة لجيش شعبي جزائري بل لشعب الجيش الجزائري؛ مع كامل التقدير لهذا الشعب الذي حُمِل حملا –بعد استقلال مستحق- على استهلاك الشعارات إلى حد الإدمان، في الوقت الذي يستهلك جلادوه خيرات بره وبحره.
وسيتذكر الجزائريون ،لعشرات السنين المقبلة ،رئاسيات 2014؛ليس فقط لبدعة ترشيح رجل مريض ؛وفي خريف العمر- مما يعد تنكيلا به لا يراعي ما أسداه للجزائر من خدمات - ولكن لما فوتوه على أنفسهم من فرصة بناء الجمهورية الثانية التي تَجُبُّ ما قبلها ،متمثلة قيم الديمقراطية في عصر رقمي عولمي، لا مكان فيه لدولة الاستبداد ،ولو عادلة.
ان ما يحدث اليوم في الجزائر له ما بعده ،ومن جنسه؛ فكما أدى إبطال الفوز الساحق للجبهة الإسلامية في الانتخابات البلدية والتشريعية – 12 يناير 1992- من طرف المجلس الأعلى العسكري ،الى عشرية من الدم قاتلة ومفكِّكة لِلُحمة المجتمع ،ومُضخمة لدور الجيش،فان تعديل الدستور سنة 2008 ،نزولا عند رغبة الجماعة المتحكمة لإدامة حكمها؛وتعميته اليوم حتى لا يرى العجز العضوي شبه الكلي للرئيس، سيؤدي الى انفجار الأوضاع ،وبالتالي انهيار كلي للجمهورية الأولى .
ان رئاسة بوتفليقة ،بعد 17 أبريل 2014 – وتَصَدُّرُهُ أكيد- ليست فقط غير دستورية ؛وإنما تتم على بياض.
انها رئاسة بسبب قوي - حتى لا يفعلها الرئيس أبدا - وهو مرض الموت ،كما يقول الفقهاء.
لا حساب مع رئاسة هذه حالها ؛ولعل الجماعة المتورطة في هذا التنكيل برئيس مريض ، استهوتها هذه الحالة بالضبط؛وكما يقول المثل :لأمر ما جدع بصير أنفه.
ينتحر الساموراي حينما يقتنع – لطارئ ما- بأن الحياة لم تعد تحقق له عزة النفس ؛فلماذا تقبل دولة قُوتها في عسكرها الثري ،وضعفها في شعبها الفقير، على هذا النوع من الهاراكيري؟ هل استفادت من الاتحاد السوفيتي حينما اقتنع بأن داءه العضال انتشر في كل الجسد ،ولم يعد ممكنا سوى الانهيار و التشظي ؟
هل استشعرت الجماعة المتحكمة خطرا لا دَفْع له ،فأقسمت ألا تسلم الجزائر إلا قطعة من نار ،كما هي ليبيا اليوم وسوريا ؛وحتى كما فعلت كاهنة الأوراس ذات قتال ،وذات حرق؟
ليس في كل هذا أي ترف فكري تحليلي ؛لأن الناظر الى رئاسيات الجزائر ،في شقها البِدعي، لا تسعفه مناهج التحليل المتعارف عليها.
كيف نفهم اجتماع القوة القصوى للدولة في يد رئيس،مع أقصى درجات الضعف العضوي؛دون أن نفكر في طائر الفنيق الخرافي الذي يحترق،بعد أن يُعَمِّر عتيا، لينهض – بفعل قوة خارقة- من رماده في كامل العنفوان؟
من مجلس الثورة الى مجلس الثروة:
انتهى مجلس الثورة الذي لم يعرف في الحقيقة سوى ثائر دكتاتوري واحد هو هواري بومدين، الى أن يلد مجالس متعددة للثروة ،للبِيزْنَسْ ؛وهذه نتيجة حتمية للدولة حينما تكتمل ، بوصفها دولة استبداد ومال. حتى ابن خلدون لا يرى لهذه الدولة ،حينما تُكمل صعود مراقي الثراء والنعيم ،سوى التفكك والانهيار.
لم يكن أمام قادة الجيش الأثرياء إلا أن يتحالفوا مع رجال أعمال من نوع خاص ؛وهكذا استبيح اقتصاد الجزائر ،وتحول الى بحر من الظلمات تؤثثه جزر لا تأوي غير القراصنة.
ان التحالف الحالي بين منتدى رؤساء المقاولات و جبهة بوتفليقة ليس وليد تطور سياسي ونمو اقتصادي طبيعيين لدولة المؤسسات ؛بل هو ناتج عن الاستماتة من أجل الحفاظ على سوق مالية ومعاملاتية متوحشة ،ازدهرت خارج رقابة هذه المؤسسات.
لو كانت أمور الدولة عادية ،والفرص متكافئة ومتاحة للجميع، لسار هذا المنتدى في اتجاه المنادين بتغيير النظام لتأسيس دولة القانون.إن رأس المال جبان ،حيثما تحرك، إلا في الجزائر فهو برتبة جنرال بفيالق.
وإذا كانت المكارم تأتي على قدر الكرام –كما يقول الشاعر- فان الفضائح المالية في الجزائر توالت كبيرة و مدوية لأنها من كبار جدا؛ جمعوا بين السلطان والصولجان والذهب الرنان( فضائح سونتراك،بنك خليفة، والطريق السيار شرق غرب). و يتساءل البعض اليوم ،في الجزائر،عن غلاف مالي رهيب(800 مليار دولار) استهلكته رئاسة بوتفليقة – رسميا على الأقل - منذ1999.
وعليه فخلف جماعة العهدة الرابعة:سلال،بلخادم،السعداني،أويحيى،ومن معهم - وهي في السلطة وخارجها، في نفس الوقت- وخلف الأحزاب التي تدفع صوب رئاسة على بياض للمترشح "الحر":
التجمع الوطني الديمقراطي، حزب جبهة التحرير الوطني، الحركة الشعبية الجزائرية، تجمع أمل الجزائر؛ ينتصب مجلس أعلى للثروة على رأس هرم الدولة العسكرية ،وهي الدولة الحقيقية في الجزائر التي تحظى بالدعم الفرنسي ،وبدعم كل اقتصاديات العالم ذات المصالح في الجزائر؛لأنها الدولة الضامنة ،دولة الحسم المباشر الذي يدوس على دولة المؤسسات المنتصبة للاستهلاك الشعبي فقط. كيف يمكن تفسير صفقات الأسلحة المليارية – بما فيها المتلاشيات ،جوا،الروسية- التي تفوق بكثير الحاجيات الحقيقة ،ومؤهلات الجيش،دون استحضار أ خطبوط هذه الدولة السوداء؟ .
ورغم آلية الارشاء الاجتماعي الذي يمارسه مجلس الثروة هذا والذي يفعل صناديق "سوداء" تقع خارج الدورة الاقتصادية المعلنة،فان الشعب الجزائري – مُحفزا بترشيح مشبوه - أدرك مدى الخطورة التي تسير نحوها الدولة .
وسواء اكتفى بمقاطعة الانتخابات ،أو عارض،فقط، العهدة الرابعة ،أو تجرأ أكثر وطالب بإسقاط النظام برمته فهو يلعب دائما في ملعب الدولة الحقيقية المتمنعة والمستعصية ؛المحتكرة للعنف والمال معا .دولة لا يبدو أن المنتظم الدولي ،بما فيه منظمات حقوق الإنسان ،على بينة من حقيقة ما يجري فيها؛وحتى لو كانت على بينة –استنادا الى وسائل الإعلام فقط- فهي لم تحسم بعد في وضعية الشعب الجزائري، لفرادتها،والتباس العلاقة جيش/شعب.
وكأن تاريخ التحرير يعيد نفسه ،وكأن شروط ثورة المليون شهيد تكتمل ،مرة أخرى، تِباعا لدفع العالم الى الاقتناع بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بيده؛لكن بعد منازلات شعبية عديدة ،أعدت لها الدولة كل لوازمها؛حتى في ما يخص المرتزقة جلادي الشعب ،على طريقة القذافي.
الاهانة:
إن المتأمل لبرنامج بوتفليقة الانتخابي ،حيث تبلغ سخرية الدولة الحقيقية أقصاها ؛حينما لا ترى في كل الاحتجاجات والتظاهرات غير دعوة ملحة لبوتفليقة ،كي لا يغادر هذه الدنيا الا وهو متأبط للرئاسة ،بعد أن يكون –اذا سمح المرض وأرذل العمر- قد جدد الدستور ، والحياة السياسية والاقتصادية ،وفتح تدبير الدولة للشباب؛لا يمكن ألا يصاب بذهول كبير لجرأة القوم ،واحتقارهم للشعب،وهم يعلنون عن برنامج – ربما لشهور معدودة- من حجم ما أخفقت فيه الجزائر على مدى نصف قرن.
لا يمكن لهذا الكلام أن يكون مفهوما الا حينما نستحضر أن الرئاسة حينما تكون على بياض ،لا حدود لترهاتها.
حينما يكون الملعب والفرق والفيدرالية والجمهور ملكا لشخص واحد – كما قال أحد ساسة الجزائر- فلا يهمه من ينتصر ومن ينهزم ؛وأضيف :ولا حتى ما يصدر عنه من كلام ؛كما لا يهمه حتى تعذر الصرف الصحي الطبيعي لإفرازات جسده الفسيولوجية.
وان تعجب فاعجب لرئيس حملة انتخابية يفرق السباب واللعنات ؛ولمدينة(غرداية) حُوِّلت الى حقل تجارب ميداني للبرهنة على أن خراب الجزائر في سقوط النظام الحالي . استعادة لحادثة استجابة نا بليون لإحدى عشيقاته ،حينما رغبت- بعد أن قاتلها الامبراطور طوال الليل- في التفرج على حرب حقيقية؛فما كان منه ،في إحدى استراحات معاركه الأوربية، الا أن أصدر أوامره للمدفعية فاندلع أغرب قتال في التاريخ . يموت شباب الأمازيغ والعرب ليضمنوا لشيخ مريض الاستمرار في الرئاسة .
أزمنة الرؤساء المتدربين:
في خطاب بوتفليقة ،عقب توليه الرئاسة التي استقال منها طوعا الرئيس ليامين زروال (27 أبريل 1999)صرح بأن زمن الرؤساء المتدربين انتهى ؛وهذا ما لم ينسه ابن باتنة أبدا ؛ومن يومها لم يلتق ببوتفليقة ؛وحتى حينما كان هذا الأخير يزور عاصمة الأوراس كان زروال يقصد عاصمة البلاد،تفاديا لإحراج بروتوكولات الرئاسة.
ورغم كل التجاوزات ظل هذا الرجل صامتا ،حتى والوفود تتقاطر عليه ،وتدفعه صوب الأضواء من جديد.لازِمته التي ظل يدفع بها هي فسح المجال للشباب بعد أن ولى زمن الشيوخ.
لكنه اليوم لم يجد بُدا –وهو يرى الجزائر تساق الى الفتن من جديد- من الإعلان جهارا عن اصطفافه الى جانب دعاة التجديد الشامل بكيفية سلمية متحضرة.
عناصر القوة في بيانه الذي تناقلته وسائل الإعلام الداخلية والخارجية-بعد الإشارة إلى المتطلبات البدنية للرئاسة- هي تَخطيء الربط التلقائي لعودة السلم الى الجزائر بشخص بوتفليقة؛معتبرا أن ما تحقق تحقق بفضل الجيش-وهو من قادته المبجلين-والفاعلين السياسيين؛ويضاف الى هذا تحذيره من الثقة الزائدة في ثروة البلاد لحل معضلات الدولة.انه بهذا ينصح بدولة المؤسسات القوية التي لا يتوقف بناؤها على الثروة فقط ،واحتياطي البلاد من العملة الصعبة.
وكما يظهر جليا ففي هذا المنحى الحكيم غمز ولمز للارشاء الاجتماعي الذي تنهجه دولة الثروة مفعلة صناديقها السوداء،كما أسلفت.
طبعا يمكن الدفع بالخدمة القوية التي يقدمها لدولة الجنرالات ،من خلال بيانه هذا ؛مما ينسف كلية دعوته في نفس البيان الى التجديد الشامل. ومن هذا المنظور يظل لاعبا كغيره في نفس الملعب.
شخصيا يبدو لي أن هذا التفسير المتهافت خاطئ ،لأن مضمرات البيان أكثر من تصريحاته:ان ليامين زروال رجل جيش ودولة وشعب – محايد انتخابيا- دون أن يتوقف ،في بيانه،عند العلاقة الحقيقية التي تربط عناصر هذا المثلث. ولم يجد – مستشعرا خطورة الأوضاع التي تقاد اليها البلاد- غير تقوية كل هذه الأركان المكونة للدولة ،ودفعها ،ولو في تصارعها، صوب خطوات شجاعة وجريئة تقرب بينها ،من أجل جزائر أخرى؛جزائر الغد التي أخطأتها كل أزمنة الرؤساء السابقين ؛حتى غير المتدربين.
لو كانت الأوضاع الدولتية – بالنسبة لجميع المكونات الأساسية والأجنحة- سليمة في الجزائر لكان خطاب ليامين زروال ،هذا، هو خطاب عبد العزيز بوتفليقة ؛مودعا السياسة وشعب الجزائر، الذي قست عليه الدولتان معا ،بدليل وعوده إياها في برنامجه الانتخابي.لو فَعَلها لارتفع في أعين شعب صابر أبي؛لكن هل يملك أمره ليفعلها؟
ان مستقبل الجزائر بين يدي الباحثين على رئاسة على بياض ،في زمن الحساب والعقاب والقتال ،غير بعيد عن حدود الجزائر.
Ramdane3.ahlablog.com