يوسف ججيلي
إليكم هذا المشهد: في حدود الساعة العاشرة صباحا، تضع جمعية شكاية في مكتب النيابة العامة الفرنسية تدّعي فيها تورط جهاز المخابرات المغربي في عمليات تعذيب داخل السجن وتطلب الاستماع إلى المدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني. عند الساعة الثانية بعد الزوال من اليوم نفسه، يتوجه سبعة عناصر من الأمن الفرنسي مسلحين إلى مقر إقامة السفير المغربي بباريس من أجل إشعاره باستدعاء عبد اللطيف الحموشي من قِبَل قاضي التحقيق؛ فيما كان وزير الداخلية داخل إقامة السفير يعقد لقاء صحافيا مع عدد من الصحافيين. ماذا لو كان المدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني داخل الإقامة حينها، هل كان رجال الأمن الفرنسيون سيكملون مهتمهم ويعتقلون الحموشي ويقتادونه مصفد اليدين ليمثل بين يدي قاضي التحقيق؟
منكم من سيقول إن القضاء الفرنسي مستقل وتفاعل بالسرعة المطلوبة مع شكاية تقدمت بها جمعية من المجتمع المدني، كنت سأوافقكم الرأي لولا أننا نعلم جميعا أن مظاهر البيروقراطية وجميع الأمراض المرتبطة بها ورثناها هنا في المغرب عن فرنسا؛ بل إن الفرنسيين هم من علمونا فن إيجاد الهفوات في مختلف المساطر، الإدارية منها والقضائية. وهنا، لا بد أن نُذكر قاضي التحقيق الفرنسي ومعه جمعيات المجتمع المدني أن هناك ما يزيد عن ألف شكاية مرتبطة بملف اختطاف المهدي بنبركة، لم يتم يوما تحريكها بهذه السرعة والاستماع إلى أسماء المسؤولين الذين توجه إليهم أصابع الاتهام؛ فلماذا يتلكأ القضاء الفرنسي عندما يتعلق الأمر بملف عمّر في رفوف محاكم فرنسا لأزيد من أربعة عقود في فك خيوط الجريمة، علما بأن المهدي اختطف داخل التراب الفرنسي! وهل الاعتبارات السياسية الداخلية لفرنسا تدفع قاضي التحقيق إلى التفاعل بسرعة فائقة مع شكاية وُضعت قبل أربع ساعات؛ فيما لم يحرك ساكنا بخصوص آلاف الشكايات التي وضعت بشأن قضية المهدي قبل أربعين عاما؟ إذن، في رأيكم، القضاء الفرنسي مستقل تماما حينما قام بما قام به.. طيب،وماذا عن القنوات الدبلوماسية الموقعة بشأنها اتفاقيات مختلفة مرتبطة بالتعاون القضائي بين البلدين؟ لماذا لم يتم احترامها؟… قد يرد أحدهم بأن فرنسا حريصة على حقوق الإنسان واستقلالية قضائه؛ لكننا رأينا، في أكثر من مناسبة، كيف كانت تضرب عرض الحائط بكل مبادئ الأنوار من أجل مصلحتها. هل تتذكرون كيف طالبت وزيرة الدفاع الفرنسية بدعم نظام زين العابدين بنعلي بالسلاح في عز انتفاضة الشعب التونسي؟ وهل تتذكرون كيف كان رؤساء فرنسا يدللون العقيد معمر القذافي قبل أن ينقلبوا عليه رغم علمهم بالفظائع التي كان يرتكبها في حق شعبه. إذن، حديث الحقوق والحريات غير وارد هنا، ويجب أن نبحث عن سبب هذه «الحرْكة الفرنسية» في مكان آخر. هناك من يعتقد أن فرنسا أرادت بعملها ذاك التشويش على زيارة جلالة الملك إلى إفريقيا؛ فهي تعتبر أن زيارته هذه المرة كانت من العيار الثقيل: شركات كبيرة رافقت الملك، وإعلانات مدوية كُشف عنها. ما يعني أن المغرب يسعى إلى أن يكون له دور اقتصادي وسياسي في إفريقيا الفرنكوفونية، خاصة في المناطق التي تخلت عنها فرنسا. أو بعبارة أخرى، أصبحت ترفض المنطق الاستعماري في العلاقات؛ لكن لنا أن نزعم أن فرنسا بسلوكها ذاك سعت إلى استصغار المغرب؛ علما أننا نشاهد، منذ أكثر من عقد، كيف أن الصينيين غزوا إفريقيا دون أن تتحرك فرنسا، التي تخطب ود هذا العملاق، إلى درجة أنه تدخل مؤخرا كي ينقذ شركة «رونو» من الإفلاس. نحن لا ننفي أن هناك تجاوزات تقع في سجوننا ومخافر الشرطة وأمام قضائنا؛ وهي تجاوزات ما فتئت جمعيات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المغربي تفضحها. ونحن لسنا ديكتارتورية حتى يتم التربص بمدير المخابرات، ألا تدري فرنسا أننا ذقنا المر أيام «الكاب 1» ومن معه عندما كان آباؤنا وإخواننا يختطفون ويعذبون في المخافر والسجون السرية ويحاكمون دون أن تتوفر لهم ضمانات المحاكمة العادلة، وطوينا بكل شجاعة وجرأة وفخر تلك الصفحة السوداء من تاريخنا المشترك عبر تجربة رائدة عالميا اسمها هيأة الإنصاف والمصالحة؟
فاليوم، لم تعد عبارة «المخابرات» مخيفة؛ فوسائل الإعلام وجمعيات المجتمع المدني تراقب والبرلمان كذلك. شخصيا، لا أنازع حق فرنسا في أن ترفع دعاوى ضد مسؤولينا، فذلك حق أصيل لها وللمغرب؛ لكن هناك أعراف وتقاليد دبلوماسية يفترض احترامها بعيدا عن الحسابات السياسية الظرفية، خاصة أن توالي الأحداث التي عشناها الأسبوع الماضي أظهرت بجلاء أن المستهدف لم يكن هو عبد اللطيف الحموشي، بل كان المغرب.