استمعت لألبوم معاذ بلغوات “الحاقد” من البدء حتى المتم. استمعت لكل التيترات، لكل المورصوات، وكلفت نفسي بمهمة فوق المستطاع: أن أنهي الألبوم من بدئه حتى الختام.
استمعت لكثير الشتائم في الألبوم. سباب من الألف إلى الياء. عبارات موغلة في الدفع نحو الاشمئزاز، وااقتناع بأن الشاب الذي قدموه لنا في لحظة من اللحظات بأنه ضمير الشعب وصوت ثورته المقبلة هو مجرد “شمكار” يسب الناس، ومعذرة على الكلمة لكنها ليست سبا، وإنما هي وصف لما قاله بلغوات في الألبوم منذ أغنية “نص إيطرو” إلى “تحربيشة”.
لسوء حظي أو لحسنه _لا أدري_ كنت قد انتهيت للتو من مشاهدة جوائز الموسيقى الفرنسية على “فرانس 2″. كان الظاهرة ستروماي قد قدم بعضا مما لديه من قدرة على الإدهاش بعد أن فاز بكل الجوائز المهمة، وكان قد سجل في حوار صحافي بعد الفوز جملته الموغلة في التواضع “لا أقدم الراب أو الأرأن بي أو السول أو البوب، أقدم موسيقاي وأحرص أن تكون خليطا من كل هذا وأتمنى أن أواصل على نفس المنوال”.
مهلا، هل أقارن بين ستروماي والحاقد؟
قطعا لا، الأمر غير ممكن، لكنني أقارن بين الحظ العاثر والحظ الجيد الذي يجعل اليوم الفرنكوفونيين، فرنسيين وبلجيكيين، يستمتعون بمستوى مثل ستروماي، ويجعلنا نحن المغاربة ننتظر ألبومات من الحاقد، من سعد المجرد، من سينا، ومن البقية، ثم نقفل العين ونفتحها، فنجد حجيب في التلفزيون ليلة عيد الحب يجبرنا على أن نكره أنفسنا وأن نكره العالم، وأن نكره دوزيم، وأن نكره الصديق رشيد العلالي رغم أنه لطيف، وأن نصارح أنفسنا بعد كل اليأس الذي يلف بنا من كل مكان “ماعندناش وماخصناش”.
لماذا؟ وأين أضعنا الطريق؟
في لحظة من لحظات الستينيات والسبعينيات، بل وحتى الثمانينيات، كان لدينا أناسنا في كل أنواع الغناء. كنا نشهر في وجه مصر نعيمة سميح وعبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط الذي تنكر لكل فنه بعد أن اغتنى منه، وقال لنا بدروشة محزنة إن “ماكان يفعله حرام”، ومضى إلى الاختفاء استعدادا للرحيل.
في تلك اللحظات كان المغرب الفني فقيرا ماديا، لكنه كان قادرا على جعل عبد الرفيع الجواهري يجالس عبد الرحيم السقاط فيخرجان من قمقمم الموهبة معجزة إسمها القمر الأحمر، يهديانها للصغير بلخياط. كان عبد الوهاب الدكالي قادرا على الصدح “ما أنا إلا بشر”، وكان الغيوان قادرين على إدهاش العالم كله بصرختهم “غير خذوني”، مسجلين براءة الاختراع باسمهم أن هذا البلد لن يكف عن المفاجأة والابتكار.
لذلك لا مفر من طرح السؤال “فين تزكرمات حتى لم تعد قادرة على أن تعطينا إلا المجرد وسينا والحاقد والبقية؟”.
لنقلها بكل الصراحة الموجعة والعارية: النيفو طاح، والمستوى نزل إلى أدنى مستوياته، وقمة قمم اليوم التي يمكن أن ننتظرها من مبدعينا هي أن يصرخوا في وجوهنا بالخليجية الهجينة “سالينا سالينا”، أو أن يضربونا بإنجليزية البازارات “أنجيل لايك هاندصام”، أو أن يقللوا علينا الحياء ويكثروا علينا من عبارات “التناخم” _ حاشاكم _ لكن العبارة موجودة بكل تقزز تخلقه في “روفران” لإحدى أغاني الحاقد في ألبومه الأخير.
لا مشكل لدي مع السياسة أو مع أن ينتقد الحاقد من يريده في الألبوم، أو في أن يستعمل اللغة العارية القاسية استعمالا فنيا فعليا لإيصال رسالته الجذرية. المشكل لدي هو في أن نعوض انعدام الموهبة بالسب والشتم والكثير من اللعنات، وأن نتصور لمجرد أننا شتمنا المغرب طولا وعرضا أننا بالفعل أنجزنا شيئا.
لا والكارثة هي أن يقرأ أحد للحاقد هذا الكلام، وأن يترجمه له باعتبار “المخزن يهاجمه عبر أحد أبواقه”، فلا “يقشع الذي بعث في كل هذا الانتقاد”، ويتصور أن الحكاية كلها من البدء حتى الختام تصريف لمواقف سياسية تافهة.
في هذا المجال بالتحديد لا تهمني السياسة. يهمني الفن، وأتمناه قادرا على السمو على التفاهة التي يقترحها علينا “سياسيو الكيلو” باستمرار، لكن الكارثة هي أن الفن الذي يفترض أنه أعلى مستوى وقيمة وقدرا من السياسة العابرة غير قادر على رفع التحدي، وغير متمكن إلا من ضربنا بأشباهه الفنانين ممن يتلقفهم الإعلام الجاهل لكي يصنع بهم الأعاجيب.
لا حظ لنا سوى أن نلف هنا وهناك، ثم نقرر الرحيل: إلى الغرب في سينماه وتلفزيونه، إلى مصر في مسلسلاتها وبعض البرامج، إلى القادرين على منحنا المتعة الفعلية في الغناء، إلى المتمكنين مما يفعلونه بموهبتهم، عوض البقاء أسرى معدومي الموهبة ممن تفتح لهم مجالات الافتراء في مجال لا يقبل نهائيا الإدعاء.
هؤلاء تصلح لهم عكاشة بالفعل، لكي يدخلوها ويتربوا داخلها ويعوضوا مافاتهم من تربية حسنة وهم خارج الأسوار. هؤلاء هم “عكاشة فاميلي” حقا. نتمنى لهم كامل السجن وموفور الاعتقال، لكي يبقى ذوقنا الفني بعيدا عنهم سليما من كل أذى قادرا على قليل المقاومة وشيء من البقاء…