**حسن أوريد: كنت إلى حدّ ما أتوقّع صُعود الحركة الإسلامية، كنتُ في الصفوف الأولى، وقد وفرتْ لي مكناس الإحساس الأولي بمجيء الإسلاميين. لم يكن ذلك عبْر التدبير اليومي إبّان تحمّل المسؤولية، فقط، بلْ كذلك من خلال التمرين الفكري. ومن ناحية أخرى كنتُ ألاحظ ضعف بعض التشكيلات السياسية...
* مثل «حزب الاستقلال» و«الاتحاد الاشتراكي»؟
**حسن أوريد: معنى هذا، في جزْء كبير منه، أنّ مجيء الإسلاميين مردّه إلى وجود فراغ بدأ يتّسع، أوّلا لأنّ عددا من المرجعيات والإيديولوجيات بدأت في التراجع.
* الحركات الوطنية...
**حسن أوريد: الحركات الوطنية، المعارضة... إلخ. لمْ تعد هناك تعبئة. منْ هنا توقعتُ صعود الحركات الإسلامية، ولم أفاجأ عمليا. لم أكنْ أنا الوحيد الذي رأى هذا الصعود. وإذا تمّ التفكير في تأسيس حزب، فذلك باعتباره الوسيلة الوحيدة للحدّ من هذا الانتشار.
* (مقاطعا): هلْ تمّ تأسيس حزب؟
** حسن أوريد: فيما أعتقد هناك حزبٌ تمّ تأسيسه. يمكن أن نعود إلى الحديث عن ذلك فيما بعد... كنت شاهدا على تعقّد وتشابك هذه الظاهرة، ومن ثمّ تشكّل ثلاثة مكوّنات هي التي ساهمتْ في بروز الإسلاميين: أوّلا، البورجوازي المحافظ الذي له مصالح يرعاها، وثانيا، المناضل المنحدر من الطبقات المتوسطة: الأستاذ، المحامي، الطبيب، الموظف الخ، ثمّ ثالثا الفقير المعدم المنحدر من الأحياء الشعبية ومدن القصدير.هؤلاء لعبوا دورا محدّدا، خصوصا وأنّ الإسلاميين كانوا في المعارضة. ثمّ إن هذه المكوّنات تتكامل فيما بينها. فالبورجوازي الورع، حسب تعبير جيل كيبيل، هو الذي يوفر الإمكانيات المادية، والمثقف هو الذي يوفر الأفكار والمقترحات ويسيّر، بينما المناضل الشعبي المنتمي إلى القاعدة هو الذي يزيد في أعداد الناس، بما أنّ الحركات الإسلامية تتغذّى من وتقوم على «عصر الجمهور»، لكيْ نستعمل عبارة غوستاف لوبون.. كنت شاهدا على الاختلافات الموجودة، اختلافات متوارية غير أنها كانت موجودة. لكن هذا لا يمكن أن يستقيم مع تحمّل الإسلاميين للمسؤولية.
* هل تعني أنّ هذا الإسلام السياسي المحافظ، المعتمد على إيديولوجية دينية، تعوزه الفعّالية الاقتصادية والسياسية؟
**حسن أوريد: الإيديولوجيا كانت تعبيرا عن انعدام الرّضا أكثر مما كانت اقتناعا. وأنا أعتبر بأنها تفتقر إلى رؤية للمجتمع وللدولة، مع العلم أن الإسلاميّين موجودون في المشهد السياسي المغربي، ولكنهم بدون أفق ولا مخْرج.
* الملاحظ عنكَ الأستاذ أوريد أنكَ لمْ تكتب أبدا عن الإسلام السياسيّ، لماذا؟
** حسن أوريد: كلاّ هذا كلام غير صحيح، ولا أحبّ أنْ أقوم بالدعاية لنفسي، ولكنّني كتبتُ عنهم في زاوية لي في صحيفة «لافي إيكو» ومجلّة «زمان».. ربّما لمْ تقرأ ذلك..
* (مُقاطعا): هلْ معنى هذا أنني لمْ أقمْ بعملي؟
** حسن أوريد: لم أقلْ بأنك لمْ تقم بعملك، ولكنك ربّما لم تقرأ أو لم تنتبه إلى ما كتبتُ، كما أنني ألقيتُ محاضرات في موضوع الحركات الإسلامية. وأعتبر دائما أن ما يهمّ ليس الخطاب وإنما العمل والممارسة، وخصوصا عندما تتحمّل المسؤولية في الحكومة. لقد انتهى اليوم عصر الكلام والخطابات، وأصبح المقياس هو المُنجز على أرْض الواقع.
* إذا وسعنا من الإشْكال قليلا، وأخذنا في الاعتبار ما حدث في كلّ من تونس ومصر وليبيا، ألا تلاحظ معي بأن الإسلام السياسي أبانَ على حدوده وعلى عجزه على الحكم والتسيير؟
** حسن أوريد: نعمْ، أتفق معكَ، وقدْ خبرتُ ذلك في المُمارسة، والوقائع موجودة أمامنا، بل نجد تباينات داخل نفس التشكيلة، وهذا مشكل. ليست هناك أمْثَلة داخلية، فالبعض في العدالة والتنمية غير راض، ولنأخذ على سبيل المثال أفتاتي الذي يعتبر هو قريبا من الحساسية الشعبية.
* هل هذا التباين موجود في جميع الأحزاب السياسية؟
** حسن أوريد: تعرف أنه منذ سقوط جدار برلين، بدأ الشعور بنسيان الطبقات الاجتماعية. فحزب كالاتحاد الاشتراكي كان يعبر عن البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة، بينما حزب الاستقلال كان حزبا بورجوازيا. لكن اليوم نحن بصدد بداية نهاية أحزاب ذات مرجعية ثقافية معيّنة.
* ما رأيك في حكومة بنكيران الثانية في ظل الدستور الجديد؟
**حسن أوريد: لا يمكنني الحكم على كيفية طريقة تدبير بنكيران للشأن الحكومي، فلستُ عضوا في العدالة والتنمية ولا قريبا منه. ما يهمني أكثر هو البعد الوطني. وهنا أشير إلى أنّ ما تمّ في المغرب شيء إيجابي مع الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011 ، ووضع دستور جديد للمملكة. وهنا أيضا ما يهمّني هو البعد السياسي أكثر من البعد القانوني. التذكير بالأمور الأساسية التي تقودنا إلى أهداف واضحة. لم أشارك في صياغة الدستور الجديد، ومع ذلك أعتبر أن ما تمّ وضعه هو الذي كان يجب القيام به، وخصوصا أننا عدنا إلى قواعد اللعبة التي تعطي للحزب الحاصل على الأغلبية لتشكيل الحكومة، وهذا مكسب سياسي، بغض النظر عن قدرة الحزب على التسيير، وعن غياب نظرة واضحة للمجتمع. فهذا الحزب لم يكن عند رغبة التغيير. ولكن الذي يهمّ هو احترام القاعدة السياسية.
* ما رأيك في كوْن عبد الإله بنكيران يردّد دائما أنّ حزبه كانَ يريد تغيير المجتمع لكنهم لمْ يتركوه. هكذا قال عندما أدلى برأيه فيما يتعلق بالرشوة وبالمزعجين والمشوّشين، إلى حدّ الإشارة إلى المستشارين الملكيين؟
** حسن أوريد: لا ينبغي أنْ نجعل اللعبة السياسية مثاليّة، ذلك أن اللعبة السياسية ليست لعبة رضا عن النفس. إنه لعبة صراع وتجاذُب. فما هي الديمقراطية في نهاية المطاف؟ هي تحويل للصراع بطريقة مدنيّة ومتمدّنة.
وإذن فأنْ يكون السيّد بنكيران وحزبه يشعرون بالرضا عن النفس وحدهم، فهذا شيء، لكن لا بدّ من القول بوجود صراع وحرب نظيفة، وبالتالي لم يكن ليستغربَ المرْء بوجود إخفاق كبير. هناك أشخاص يستقرون على رأيهم ورضاهم. فقبل أن أحضر اليوم إلى هنا، كنتُ أقرأ الصحافة، وقرأت تصريح عبد العزيز الرباح، وزير التجهيز، الذي يشكو ممّنْ وصفهم بالإقصائيين. أنا أعتقد بأنها ليست الطريقة الجيدة. الطريقة الجيدة هي إعادة النظر في الذات، هي مساءلتها. ثم إن هناك، والكثيرون يقرّون بذلك، ضياع لفرصة أساسيّة، وهي انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة.
* لننتقل الآن إلى ورش التربية والتعليم، فنحن نعرف بأنك كتبْتَ كثيرا عن هذا الموضوع. مارأيك فيه بطريقة مُبسّطة، على الرغم من أنه من الصعب تبسيط موضوع التعليم؟ لماذا لا يسير التعليم على ما يرام؟ لماذا هناكَ تعدد للخطابات المَلَكية، والتقارير الدولية حول مشكلة التعليم في بلادنا؟ مدرسة لا تخلق النخبة؟ لماذا نواصل التشخيص عوض الفعْل؟
**حسن أوريد: اسمحوا لي أنْ أبدأ بملاحظة تفاؤلية. ذلك أنه عندما نطرح المشكل، فهذا في حدّ ذاته شيء إيجابيّ. ينبغي أنْ نكون متواضعين، لأنه في نهاية الأمْر لا يمكننا حلّ مشكلة التعليم بطريقة سحريّة. فهو مشروع طويل النَّفَس وجدّ معقد، بحيث أن المشكل الحقيقيّ للتربية والتعليم لا يوجد في البرامج والمقررات المدرسيّة. الكثير من المشاكل توجد خارج المدرسة، في المجتمع، في الظروف الحياتية، في الظروف العائلية، إلخ... كما توجد في فرص الشغل وإمكانات العمل، إلخ... صحيح أن لدينا مشاكل مرتبطة بالتخلف، بانعدام الإمكانيات، كما أن هناك مشاكل أخرى لها علاقة باللغة وبتدبير التعدّد الثقافي. يجب أن نكون متواضعين ونقول بأن مشكل التعليم ليس تقنيّا، فهو ليس مشكل وزارة التربية الوطنية. إنه في عمقه مشكل مجتمعيّ، وبالتالي يهمّ جميع مكوّنات المجتمع: وزارات أخرى غير وزارة التعليم، الأُسر المغربية، المجتمع المدني، الصحافة ومكوّنات أخرى. فهو يوجد في علاقة مفْصلية بين المدرسة والمجتمع. غير أن واحدة من العوامل المحددة في الجوهر: توفّر رؤية، مشروع مجتمعي، هو ما أسمّيه «الطموح الجماعي». ما هو طموحنا الجماعي؟ ماذا نريد؟ ماذا نريد أنْ نصبح؟ لا ينبغي الوقوف عند سؤال: من نحن؟ بل يجب الانتقال إلى التساؤل عمّاذا نريد أن نكون؟ هل نريدُ أنْ نكون ضمن فضاء الشرق الأوسط؟ أو الانخراط في الحداثة؟ إلخ...
* هل تعني كامتداد للشمال الغربيّ؟
** حسن أوريد: الأمور لا تُحلّ بطريقة أُحادية. كل مجتمع يدمج العديد من الحساسيّات، لنأخذ مثال المكسيك، فهناك من يركّز على جانب الأزتيك، بينما يركّز البعض الآخر على الجانب الإسباني. المثال الآخر هو مصر، حيث نجد كاتبا مثل طه حسين يركّز على البعد المتوسطي للمجتمع المصريّ، في حين ينظر آخرون غيره إلى البعد القارّي.. وهكذا؟ هناك تفاعل وتعالق وتجاذب. أنا أعتبر بأنّ مصلحة المغرب هي مع الغرب، نحو الشمال، لا ينبغي فقدان الشمال.
* هل نفقد الغرب؟
** حسن أوريد: نفقده في بعض الأحيان. ولكن هذا لا يعني نسيان الجذور الجنوبية، الارتباط الإفريقيّ. أما بالنسبة للمشرق، فقد لعب دورا محدّدا على الصعيد الثقافي، هذا صحيح، غير أن مصلحتنا هي اليوم في اتجاه الغرب.
* أريد أن أعود معك إلى مشكل أكثر مأساوية في التعليم، وهي الضعف الكبير على مستوى التعليم الابتدائي، الذي أفرز بالموازاة معها تعليما خصوصيّا. والنتيجة هي أن الطبقات الميسورة تبعث بأبنائها إلى المدارس الخصوصيّة، بينما تضطرّ الطبقات المعدمة، أو ذات الدّخل المحدود إلى ترك أبنائها في المدارس العموميّة. وهو الواقع الذي من شأنه أنْ يفرز مجموعات لا تتعارف فيما بينها. فبعد أن كان التعليم العمومي يضمّ مزيجا من أبناء الطبقات الغنية والفقيرة، بتنا نرى اليوم مجموعات معْزولة عن بعضها البعض، وهذا خطير، وقد لا نتحدّث فيما بعد عن مغرب واحد، بقدر ما سنتحدّث عن مغربيْن أو ثلاثة.
** حسن أوريد: لا يمكنني إلاّ أن أتّفق معك، وهنا لا بدّ من القول بأنه ينبغي أولا تحديد وظائف المدرسة: ماذا نريد من المدرسة؟ أظنّ أن الوظيفة الأولى هي وظيفة تعزيز الهوّيةّ الوطنية التي هي الأساس، لأن المسألة لا تتعلق بالتكوين فقط، وإنما بالوطن. الوظيفة الثانية هي تكوين النّخب. في غياب هاتين الوظيفتين، فإن المدرسة ستبقى في حالة عطب، وسوف تتفاقم الفروق بين الأغنياء والفقراء. المشكل الثالث هو أن المدرسة لم تعد تنتج النخب. المدرسة أكثر من تلبية حاجة السوق، أطباء ومهندسون يهاجرون في غياب حب الوطب، وتلبية المصلحة المجتمعية. نحن إزاء خلق هوة بين التعليم العمومي والتعليم الخصوصي. من هنا لا بدّ من التفكير في خلق وسائط، ولا بدّ من العودة إلى ثانويات التميّز التي كان معمولا بها،. المقياس الذي ينبغي أن يُعتمد يكون المؤهلات هي المقياس. (المدر) نقل نظام كان معمولا به خلال الحماية والمحافظة على المكوّن الوطني، كان النموذج موجودا في الجزائر وجاء به السيد هاردي، نظام مزودج اللغة، وقد نجحت المدرسة المولوية فيه.
* ما رأيك في النقاش الذي أثير مؤخرا عن اللغة الدارجة واستعمالها في المنظومة التعليمية؟
** حسن أوريد: مشكل اللغة موجود لا يمكن استبعادها. هناك أفكار مغلوطة حول اللغة. هل هناك محدد لاستعمال الدارجة؟ كلاّ. وقد كتبت عن هذا الموضوع. لا يمكن اعتماد الدارجة كلغة وحيدة. ما له علاقة بالوجدان نستعمل الدارجة، بينما في الاقتصاد والعلوم لا بد من الفرنسية ولغات أخرى. وهذا لا يعني نزعة الاستغراب، بقدر ما يعني وضع كل لغة في وظيفتها العملية. المغرب يلعب دور الوسيط بين الشمال والجنوب والمشرق.
عن أسبوعية الوطن الآن العدد552